الجيش المكي في عرصة قتال بدر، ووقوع الانشقاق فيه
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي - رضي الله عنه - الطويل، وفيه: أصابنا من الليل طش، ومطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه - عز وجل -، ويقول: "اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تُعبد"، قال: فلما طلع الفجر نادى: "الصلاة عباد الله"، وحرض على القتال، ثم قال: "إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل"، فلما دنا القوم منا، وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي، ناد لي حمزة" – وكان أقربهم من المشركين- "من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم؟" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن يكن في القوم أحد يأمر بخير، فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر". فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: يا قوم إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم، وفيكم خير يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، قال: فسمع ذلك أبو جهل، فقال: أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأَعْضَضتُهُ، قد ملأت رئتك وجوفك رعباً. فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه؟ ستعلم اليوم أينا الجبان؟[1].
وفي رواية للبزار من حديث ابن عباس قال: لما نزل المسلمون، وأقبل المشركون، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر، فقال: "إن يكن عند أحد من القوم خير، فهو عند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا" وهو يقول: يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه، وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا.
فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور، ولو قد التقينا. فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً! أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي، وكأن وجوههم السيوف[2].
وروى ابن جرير في تاريخه من حديث سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: ائذن له، فلما دخل حكيم بن حزام قال: مرحباً بك يا أبا خالد! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس، حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة[3] رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدراً. ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله - عز وجل -، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي، وهو حليفك، فتحمل ديته وارجع بالناس. فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه، وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولاً غيرك! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادراً إلى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء ابن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا، فعند ذلك قامت الحرب[4].
وفي رواية أخرى قال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مخربة أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم، قال عتبة بن ربيعة: فإني لا أخشى أن يشجر[5] أمر الناس غيره يعني أبا جهل بن هشام، ثم قام عتبة خطيباً، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا، وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعاً من جرابها[6] فهو يَهنئها[7] (قال ابن هشام: يهيئها)، فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، كلا! والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أكلة[8] جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك[9]، ومقتل أخيك، فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف، ثم صرخ: واعَمراه!! واعَمراه!! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس[10]، واستوسقوا[11]، على ما هم عليه من الشر، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: "انتفخ والله سحْرُه" قال: سيعلم مُصفّر إسته[12] من انتفخ سحره، أنا أم هو؟!
قال ابن هشام: السحر: الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة، وما كان تحت السرة فهو القصب، ومنه قوله: "رأيت عمرو بن لحي يجرّ قُصْبهُ في النار" قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عبيدة. ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة[13] تسعه، من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر[14] على رأسه ببرد له[15].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|