من آثار فتح مكة .. القضاء على الوثنية وتطهير القبلة
كان فتح مكة نصراً عظيماً لعقيدة الإسلام على عقيدة الشرك، ونصرت فيه كلمة الحق على كلمة الباطل، وأعزّ الله به رسوله وجنده المؤمنين، ولم يكن انتصاراً لذات أحد بعينه أو ثأرا لشخص ما، بل كان فتحًا مبينًا فتح الله به حصون الشرك، كما فتح قلوب أهل مكة لكلمة التوحيد.
وفي فتح مكة جمع الله تعالى لرسوله بين الفتح والنصر، ففي غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة للفتح نجد أن القرآن تحدث عن النصر في بدر، فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [1]، وفي غزوة أحد صدق الله وعده المؤمنين في أول المعركة، فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [2]، أما في غزوة الأحزاب فقد سمى القرآن انتصار المؤمنين نعمة، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [3]، وفي غزوة حنين قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ﴾[4].
أما في غزوة فتح مكة فقد قرن الله تعالى النصر مع الفتح[5]، فقال: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [6].
والنصر هو: الإعانة على تحصيل المطلوب، والفتح هو: المطلوب، فقدم النصر على الفتح[7].
وقيل النصر: الإغاثة والإظهار على العدو، والفتح فتح البلاد، والمعنى نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة[8].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي[9] رحمه الله:
وسورة النصر تحمل بين آياتها بشارة وأمرا للرسول صلى الله عليه وسلم، أما البشارة فهي إخباره بنصر الله تعالى له، وفتحه مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، بحيث يكون الكثير منهم من أهله وأنصاره، بعد أن كانوا أعداءه، وقد وقع هذا المبشر به.
أما الأمر بعد حصول وتحقق النصر والفتح واجتماع الناس على دينه، بالتوجه إلى ربه بالشكر والتسبيح بحمده تعالى والاستغفار[10].
كما تحققت بفتح مكة البشارات الإلهية المُتَضَمنة في بعض الآيات الكريمة، كتبشير الله للمؤمنين بالغلبة والغنم، كقوله تعالى: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [11]، فهذه وإن اختلفت الروايات في تحديدها، فأقرب ما يناسب السياق أن تكون فتح مكة، التي استعصت عليهم من قبل وهاجمتهم في عقر دارهم ثم أحاط الله بها، وسلمها لهم بلا قتال[12].
وكذلك ما بعثه الله في نفوس المؤمنين من الرجاء بإسلام أهلهم وأقربائهم، فتتحول النفرة بينهم إلى مودة، والبغض إلى محبة وتتآلف القلوب بعد العداوة والقساوة[13]، كما قال تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[14].
ومنها الآيات التي تأمر بالقتال وتبشر بأن النصر والغلبة سيكون للمسلمين، وأنه لا بد آت يوم تضع الحرب فيه أوزارها، كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾[15]، وذلك حين يبين الله تعالى أنه سيكون هناك وقت تضع الحرب فيه أوزارها، أي تضع الحرب أثقال أهلها المشركين، بأن يتوبوا إلى الله من شركهم فيؤمنوا به وبرسوله ولا يبقى هناك شرك[16].
وكقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ [17]، وفي هذه الآيات يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم أي من مكة، فأخرجهم المسلمون يوم الفتح[18].
وقد ترتب على الفتح آثار عظيمة مباركة على الدعوة الإسلامية – لا زلنا نتفيأ ظلالها حتى الآن. منها:
1-القضاء على الوثنية، وتطهير قبلة المسلمين من معالم الشرك:
كانت مكة مركزا للوثنية والشرك، وقد دُنس مقام إبراهيم عليه السلام بالأصنام التي أُقيمت جانبيه وحول بيت الله، وكان أول من أحدث الأصنام عند العرب هو عمرو بن لحي الخزاعي[19]، حين قدم بهبل إلى مكة، ثم نصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه والذبح له، ثم اتخذت الأصنام الأخرى كإساف ونائلة، وجعل أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، كما اتخذ العرب مع الكعبة أوثانا وبيوتا تعظم: كمناة بقُدَيد: وهي للأوس والخزرج، والعُزى: لقريش وبني كنانة،وذي الخَلَصة: لدوس وخثعم .. وغيرها[20].
ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة التوحيد والإسلام، تركزت دعوته على إخلاص العبادة لله وحده، ونبذ هذه الأوثان جميعها، فاعترض المشركون ﴿ وقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [21].
ثم كان فتح مكة ونصر الله نبيه على المشركين، وخلص المسلمون قبلتهم من أيدي أعدائهم، فبدأ أول ما بدأ بتحطيم رموز الشرك وإزالة مظاهر الوثنية داخل الكعبة وخارجها، فحطم الأصنام بيده صلى الله عليه وسلم ومحى الصور وكسر الأزلام، ورفع راية التوحيد، وتم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية، ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام، كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها[22].
ثم امتدت حركة التطهير، وبث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه التي قامت بتحطيم الأوثان خارج مكة، وبذلك تم اجتثاث الشرك من أصوله، وقطع دابر الوثنية إلى غير رجعة، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب))[23].
وبهذا الفتح تحرر البلد الأمين من رق التعبد للأصنام والأوثان، وعاد البيت طاهرا كما أمر الله تعالى خليله إبراهيم أول مرة حين أرشده لمكان البيت وعهد إليه ببنائه، ورجع إلى القاعدة التي أقيم عليها، وهي قاعدة التوحيد، وإلى الغرض من إقامته وهو عبادة الله وحده، وتخصيصه للطائفين به والقائمين لله فيه[24]، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾[25].
وتوج تطهير البيت الحرام بإعلان البراءة من المشركين وتحريم دخولهم المسجد الحرام، وذلك يوم الحج الأكبر في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [26]، فكانت هذه المقاطعة والحظر للمشركين بعد أن طهر البيت الحرام من مظاهر الشرك، وأصبحت شعائر الحج مثل ذلك، وصارت مكة تحت السلطان الإسلامي، فلم يسمح للمشركين بعد ذلك بممارسة تقاليدهم وشعائرهم فيها[27].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|