دروس وعبر من غزوة أحد (2)
الحمد لله - تبارك وتعالى - يقضي بما شاء، ويفعل ما يريد، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من سعى وطاف، وأفضل من بكى لله وخاف، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتّقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واعلموا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة، فانصُروه ينصرْكم، واذكروه يذكركم، واشكروه يزدكم، وأطيعوه يُثبْكم، فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
وبعد:
ما أجمل وما أحرى أن نعيش مع نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نحيا مع سنته و سيرته و غزواته -صلى الله عليه وسلم- ومسيرته في الدعوة سلما وحربا، فقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مدرسة لهذه الأمة يتعلم فيها كل مسلم من واقع سيرته -صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
غزوة أُحد دروس وعبر، هذا هو اللقاء الثاني مع هذه الغزوة المباركة.
كان الدرس الأول المعاصي سببٌ رئيس للهزيمة، قال تعالى ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165]، والدرس الثاني: حب الدنيا من أهم أسباب النكوص والتعثر قال تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، الدرس الثالث: فضل الشهادة والشهداء.
الدرس الرابع من هذه الغزوة المباركة: ولا تنازعوا:
في الفُرقة والنزاع تُبعثَر الجهود، وضياع البركة وتسلط الأعداء، وفي الأُلفة والاتفاق صفاء القلوب، ونزول الرحمة من علام الغيوب؛ فلنحذر من تفرق الكلمة واختلاف القلوب، فهما الهزيمة، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، و قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].
الدرس الخامس في هذه الغزوة سنة الله في الصراع بين الحق والباطل:
فقد جرت سنة الله في رسله وأتباعهم أن تكون الحرب سجالًا بينهم وبين أعدائهم، فيدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، ثم تكون لهم العاقبة في النهاية، ولئن انتفش الباطل يومًا وكان له صولات وجولات، إلا أن العاقبة للمتقين، والغلبة للمؤمنين، فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، و ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]، سُنّة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فقد صَبَر النبي -صلى الله عليه وسلم-على الأذى والجراح، حتى دخل الناس أفواجًا في دين الله.
أبو سفيان في أُحُد يقود المشركين، وشعاره: "اعلُ هُبل"، وفي فتح مكة يقول: "لا إله إلا الله". ووحشي يقتل حمزة، ثم يُسلم ويقتل مُدعي النبوة مسيلمة الكذاب.
خالد بن الوليد يقود خيَّالة الكفر، وقُتِل على يديه فضلاء الصحابة، ولما شرح الله صدره للإسلام، أتى يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا رسول الله، إني أشترط أن تُغفَر زلتي، فقال: «يا خالد، أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجُبُّ ما قبلها».
وأصبح سيف الله المسلول فاتح فارس والروم؛ فسبحان الهادي.
فلا تحتقر أحدًا لمعصيته وتقصيره، قد يهديه الله وتزيغ أنت، واحذر على نفسك التقلب، «فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء». وردد: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
والجنة عزيزة غالية لا تُنال إلا على جسر من المشاق والمتاعب، والنصر الرخيص السهل لا يدوم، ولا يدرك الناس قيمته، ولذلك قال الله تعالى ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
الدرس السادس لا بُد من الأخذ بالأسباب:
النصر والفرج والشفاء عباد الله لن يأتي بالدعاء فقط، فلسطين وكل أرضٍ مسلوبة محتلة لن تعود الى المؤمنين بالدعاء والبكاء في المنابر والمحاريب فقط لا بد من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية مع التوكل على الله والاعتماد عليه، فقد ظاهر النبي -صلى الله عليه وسلم-بين درعين، ولبس لأْمَة الحرب، وكافح معه الصحابة، وقاتل عنه جبريل وميكائيل أشد القتال، رغم أن الله عصمه من القتل.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
الدرس السابع التضحية من أجل الدين:
إن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله -عز وجل-.
عباد الله إن هذا الدين لابد له من علمٍ يُنشر، ودعوةٌ تُبذل، وأموال تُنفق، ومهج وأرواح تُزهق في سبيل الله -عز وجل-، إنه الدين الذي ارتضاه الله -سبحانه وتعالى- للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا الدرس نجده واضحا وجليا في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد -صلى الله عليه وسلم-برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.
أنس بن النضر -رضي الله عنه- يصاب في هذه الغزوة ببضع وثمانين جراحة، ثم مثّل به بعدها، فلم يعرفه أحد سوى أخته عرفته ببنانه.
وفي سعد بن الربيع سبعون طعنة، و قتل مصعب بن عمير، فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة، واستشهد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستشهد سبعين من خيرة الصحابة الكرام.
فماذا قدّمنا لديننا؟؟
أيها المؤمنون: للصحابة الكرام الصُحبة والسبق والإقدام، تقطّعت منهم الأشلاء، وتمزّقت الأجساد، وترمّل النساء، قدَّموا أرواحهم فداءً لهذا الدين، حتى وصل إلينا كاملًا متمّمًا، فاقدر لهم قدرهم، واشكر لهم سعيهم، وترض عنهم، فقد أحبهم ربهم، -رضي الله عنهم وأرضاهم- ويأتي حقير دنسٍ نجس ينتقص منهم ومن عدالتهم، ويقول أنهم بدلوا وغيّروا بعد رسول الله، وهم حملة ديننا، وصحابة رسولنا.
الدرس الثامن الابتلاء بذوي القربى:
المرء قد يُبتلى بذوي القربى والأرحام يمنعونه من الالتزام، يمنعونه من الصلاح وصحبة الصالحين، فاصبر على ما تلاقيه منهم، فأقارب النبي -صلى الله عليه وسلم- تركوا أوطانهم وأموالهم، وقدموا إلى المدينة وقطعوا مسافة أربعمائة كيلومتر أو أكثر لقتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفعلوا ما لم يفعله غالب الكفار، من تمثيلهم بالقتلى، مع أنهم بنو عمه، وفي الفتح عفا عنهم وصفح، وقال: «لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء»[ الطبقات لابن سعد بنحوه (1) (141) (143) وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (561)].
فيا عبد الله اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة لك في الحلم والعفو، وصل رحمك، وغض الطرف عما يسوؤك منهم.
الدرس التاسع حب الصحابة لنبيهم -صلى الله عليه وسلم-:
طوق المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه وكانوا تسعة فقُتل سبعة منهم بعد قتال عنيف. ولم يبق معه غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله.
واستبسل سعد وطلحة في الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: ارم فداك أبي وأمي، وأما طلحة فقد قاتل حتى شلت يده، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة. وروى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه يومئذ: «من أراد ان ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
وخلال هذا الموقف العصيب تسارع المسلمون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم وبالغوا في الدفاع عنه، قام أبو طلحة -صلى الله عليه وسلم- يُسوّر نفسه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، وكان راميًا يرمي فكلما رمى أشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرى موضع سهمه، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، وقام أبو دجانة أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترس عليه ظهره والنبل يقع عليه، وهو لا يتحرك، وقاتلت أم عمارة وأولادها حول رسول الله -فقال لها رسول الله: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة -صلى الله عليه وسلم- فضربها ابن قمئه على عاتقها ضربة تركت جُرحًا أجوف، وضربته فنجا بدرعه، وبقيت تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحًا.
واستبسل سعد وطلحة في الدفاع عن رسول الله فقد نثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: ارم فداك أبي وأمي، وأما طلحة فقد قاتل حتى شلت يده،
قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: «كل مصيبة بعدك جلل»،، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.
عباد الله: هذه امتنا وهذا تاريخها فتدبروا وتأملوا كثيرا واربطوا بين الماضي والحاضر وسلطوا أنوار الماضي على ظلمات الحاضر.
الحديث لم ينتهي عن غزوة أحد دروس وعبر ولنا لقاء في الجمعة القادمة بإذن الله.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
وصلى اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|