أهمية الصلاة وبعض آداب الجمعة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [ النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الأحزاب: 70 - 71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، من أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به بعد التوحيد إقامة الصلاة في أوقاتها، وجعل ذلك ركنًا من أركان الإسلام، مردفًا بعد الشهادتين مباشرة، وكانت الصلاة عمود هذا الدين؛ كما قال ذلك سيد الأولين والآخرين لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما قال له: (أَوَلا أدلُّك على رأس الأمر وعموده وذِروة سنامه؟ قال: بلى قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)[1].
وإن تحدث الخطيب عن الصلاة، فأمامه المصلون الذين حضروا للصلاة، قد يقول قائل: كان حريًا بهذه النصيحة لغير الذين في المسجد الباعة الذين في الأسواق والمقاهي والمطاعم والبوفيهات والبقالات، والذين هم في الشوارع والطرقات.
نقول معاشر المسلمين لا يلزم من النصح إذا نصح الناصح أنه يقصد أن أولئك لا يقومون بذلك الأمر، فإنما أراد الله باجتماع الناس يوم الجمعة، من أجل الخير واتعاظ القلوب؛ كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]، ثم نحن معاشر المصلين نطالب أنفسنا أيضًا بالصلاة، فكم مِن مصلٍّ لم يفقه صلاته، وكم من صاحب صلاة لا ترتفع صلاته حَذو أُذنيه، كم من صاحب صلاة عنده من الغش والاحتقار وسوء الخلق، والكبر ومقارفة بعض المنكرات؛ من إطلاق البصر، وإطلاق الألفاظ البذيئة، كم من صاحب صلاة وهو عنده من الموبقات على أن الصلاة الحقيقية تنهى عن الفحشاء والمنكر[2]؛ إذًا لا بد من التذكير بأهمية الصلاة، يا أهل الصلاة.
الصلاة يا عباد الله من أعظم ما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال سبحانه: ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، ومعنى قوله: ﴿ قانتين ﴾؛ أي: خاشعين، وكان الخشوع من أهم أركان الصلاة، فربما انصرف العبد من الصلاة وقد كُتب له نصفها أو سُدُسها أو خُمُسها إلى أن وصل إلى عشرها[3]، فربَّ مصلٍّ يصلي لا أجرة له على الصلاة، وذلك أنه يصلي صلاة ما أداها كما أمر الله، ولا كما أمره رسول الله، فقد جاء في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صَلُّوا كما رأيتموني أصلي)[4].
ولقد نقلت صفة صلاة رسول الله من التكبير إلى التسليم، فيما يتعلق بأمر الأركان والواجبات والشروط والمستحبات، وما ورد في فضل ذلك من إقامة الصلاة، ولأهمية هذا الأمر أمر الله به، وعلِم سبحانه أنه لا صلاح للناس إلا بأن يكونوا من أهل المساجد، فأمر الله ببناء المساجد، وحث على ذلك وأمر عباده بالصلاة، فلا فلاح ولا سعادة للناس إلا بإقامة شرع الله سبحانه وتعالى.
والدين جاء لسعادة البشر
ولانتفاء الشر عنهم والضرر
فصاحب الصلاة هو في عصمة وفي فرح وسرور، إنه يعيش راحة نفسية، والله بخلاف الذين ليسوا من أهل الصلاة، فهم في قلق وفي اضطراب، وفي همٍّ وغمٍّ، كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وجُعلت قرة عيني في الصلاة)[5]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال، أقِم الصلاة، أرحنا بها)[6]، وتقول عائشة: (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزَبه أمرٌ صلَّى)[7]؛ أي: إذا جاءته أحزان إذا جاءته هموم دنيوية، أمر بلالًا بأن يقيم الصلاة أن يؤذن بالصلاة، فراحته عليه الصلاة والسلام، إنما تكون في الصلاة، فلو سألنا أنفسنا يا عباد الله: ما الذي يريحنا؟ فأغلب المسلمين آخر شيء يفكر به الصلاة، هناك أمور يلجأ إليها غير الصلاة وغير اللجوء إلى رب الأرض والسماء، ربما لجأ إلى أمور محرمة، إلى معاقرة الملاهي من الحرام، ثم آخر ما يكون يفكر به الصلاة.
وقل لبلال العزم إن كنت صادقًا
أرحنا بها إن كنت حقًّا مصلِّيَا
هذه الصلاة فُرضت على كل الأمم، وأثنى الله على كثير من النبيين حينما حافظوا عليها، وأمروا ذريتهم بها، فقال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54- 55].
وهكذا إبراهيم خليل الرحمن يقول: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ﴾ [إبراهيم: 40].
وهكذا أثنى الله على أهل الإيمان حينما قال: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
وأثنى على عيسى ابن مريم؛ حيث قال على لسانه: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، ويأمر الله نبيه بذلك يقول: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
لقد كان عليه الصلاة والسلام يأمر بالصلاة، وأمره الله بأن يؤديها وهو في خضم المعركة، إذا كان في قلب ساحات الوغى يأمره الله أن يقيم الصلاة.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم
والحرب تسقي الأرض جامًا أحمرَا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا
في مطلع الروح الأمين فكبرَا
والمسلمون في ساحات القتال يحاصرون أعداء الله، من أعظم ما يقومون به تأدية الصلاة، فما حال الكثير من المسلمين اليوم والواحد منهم يتعلل بقضية الرزق التي كفلها الله سبحانه وتعالى أوقات الصلاة ما عدا صلاة الفجر، هم في نوم إلا من رحم الله، وإلا فالظهر والعصر والمغرب والعشاء، ترى الناس في دكاكينهم وكأن الأمر لا يعنيهم، أعوذ بالله إلى أية حالة تردى أمر المسلمين، فما بال اليهود يغلقون أعمالهم يوم السبت، ويسبتون في بيوتهم، يدعون كل الأعمال، وما للمسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أيها العبد المسلم، اعلم يا رعاك الله أن رزقك مكفول ومحفوظ ومعدود، ولن يصلك إلا ما أراده الله، فلن تستطيع أن ترزق نفسك، فإن أدَّيت ما أمرك الله به، بارك الله لك في هذا الرزق، وإن لم تفعل جاءك الرزق بعينه، ولكن لا بركة في ذلك، ورأيت معيشة ضنكًا يوم أن تفارق الصلاة، أو أن تؤخرها عن وقتها، أو أن تصلي في بيتك أو دكانك، والمسلمون يؤدونها في المساجد.
معاشر المسلمين، لا بد أن تتمعر وجوهنا، ولا بد أن نستنكر ما نشاهده أمامنا من إغفال الكثير من المسلمين هذا الأمر، الناس يصلون في المساجد وهم في سوق القات مثلًا أو في المطاعم، أليسوا هؤلاء من المسلمين، كان حريًّا بهم أن يغلقوا الأبواب وأن يذهبوا إلى الصلاة، وكان واجبًا على ولاة الأمر أن يأمروا بذلك، فإن الله كلف المسؤولين والحكام بهذا الأمر، فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: الذين جعلناهم رؤساء أو حكام أو قضاة، أو مديرين، أو محافظي ألوية، أو لهم سلطة على الناس - ﴿ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].
فمن أراد أن يسعد في الدنيا وأن يسعد في الآخرة، فعليه أن يؤدي هذا الأمر، فقد كان الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عمَّاله، يكتب إلى المسؤولين الذين تحت دولة عمر، وعمر هو أمير المؤمنين آنذاك، يرسل برسائل يقول فيها: إن أهم أعمالي التي تقومون بها تأدية الصلاة، ألا لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
فإذا عرف العبد باب المسجد، وكان من أهل الصلاة، جاء الخير كله، ورأى الفلاح بأجمعه، وإن ترك العبد الطريق إلى المسجد، فأي خير يرجى من هذا.
إن من المسلمين من يتعلل تعليلات باردة يقول: هو لا يصلي، لكنه لا يكذب، أو ليس له حاجة إلى النساء، أو أن قلبه نظيف، إن هذه تعليلات عليلة لا محل لها من الإعراب، فأية زكاة وأية طهارة، وأي جمال بعد ترك الصلاة، إذا كان ترك الصلاة يعتبر كفرًا بإجماع أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم[8].
فماذا يرجى من رجل يقول: هو لا يكذب، أو أن قلبه نظيف وهو ليس من أهل الصلاة، بل نقول له: أنت عدوُّ الله، ويُخشى أن تكون من المنافقين وأنت ساقط العدالة، لا تُقبل شهادتك ولا تؤمن على مال المسلمين، ولا تزوج من المسلمات؛ لأنك في عداد الكافرين.
إن هذه المعلومات يجب أن نعلمها يا عباد الله؛ لأن دعاة التغريب الذين هم من أبنائنا وإخواننا يصرفون المسلمين عن مثل هذه المعلومات، ويصوِّرون الأمر أنه لا شيء فيه، وأن أمر الصلاة أمر شخصي أمر راجع إلى الشخصية، فالإنسان مخيَّر حرٌّ في تصرفاته.
ليس كذلك والله، ليس للعبد الاختيار، فالله أمر بالصلاة، فوجب على المسلمين أن يأتمروا، ومن قال مثل هذه التعليلات نقول له: يُشك في إسلامك، فإن أمر الصلاة تواتر عن المسلمين جيلًا بعد جيل، وأنها فريضة ربانية، كل الشرائع فرضت في الأرض ما عدا أمر الصلاة، ففرضت ليلة الإسراء والمعراج[9] لِما فيها من الأهمية، فوجب علينا معاشر المسلمين أن نتبصر في أمورنا، وأن ننصح بذلك أزواجنا وأبناءنا وجيراننا وإخواننا المسلمين الذين يفرطون في هذا الباب، وإن كان لك صديق أو شريك مفرِّط في أمر الصلاة، فاحذره كل الحذر، فإذا كان قد خان الله في أمانته وفي شرعته، فمن باب أولى أن يخونك أنت وإياك أن تصدق ذلك الكلام المعسول الذي يردده الكثير من الناس: هو لا يصلي ولكن قلبه نظيف، هذه عبارة لا يجوز لمسلم أن يذكرها على لسانه، وهكذا المرأة إن كانت لا تصلي وقد نُصحت، فلا خير فيها فهي امرأة سوء لا يجوز العشرة معها، وهكذا الزوج إن كان لا يصلي وقد نُصح مِن قِبَل المرأة، وجب على المرأة أن تفارقه؛ لأنه رجل سوء، ولا خير في هذا الرجل ما دام أنه لا يصلي، ثم بعد ذلك ننظر إلى النقص الحاصل عند الكثير من المسلمين الذين هم من أهل الصلاة، لكنهم مفرطون، مفرطون في تأديتها هؤلاء، فيهم خير، لكن نقص إيمانهم، فنقول: لا بد أن يكمل إيمانهم، وذلك بالعمل الصالح، فمن كان قريبًا من العمل الصالح ازداد إيمانه، فمن قرأ القرآن ومن جاء إلى المسجد ولو بعض الفروض، رأيت الحسنة تصحب أختها، وتنادي أختها، وإذا بدأ بمغادرة المسجد شيئًا يسيرًا، بدأت السيئات؛ كما قال عروة بن الزبير[10]: إذا رأيت للرجل حسنة، فاعلم أن لها أخوات، وإذا رأيت له سيئة، فاعلم أن لها أخوات، وقال بعض الصالحين: إذا عمل الرجل الحسنة قالت الأخرى: وأنا، وإذا عمل السيئة قالت الأخرى: وأنا، فمن عمل الصالحات بدأت الأعمال الأخرى تراوده وتجاذبه، وهكذا من عمل السيئات والعياذ بالله، بدأ السوء يتطرق إليه، ويظفر به الشيطان الرجيم، فتأدية الصلاة والمحافظة عليها يحتاج إلى إرغام للشيطان، وإرغام للنفس، وإرغام للهوى، وإرغام للدنيا التي أنهكت الكثير من الناس في أمر محسوم كما قال الناظم:
كم دقت ورقت واسترقت
فضول الرزق أعناق الرجال
فأمر الأرزاق يجب على العبد ألا يخاف، وأن يعلم أن أمر الرزق شيء مقدَّر.
دع المقادير تجري في أعنَّتها
ولا تبيتنَّ إلا خالي البالي
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال
فكيف تخاف الرزق؟ كيف تخاف من أمر الرزق وقد كُتبت أيامك، كتب العمر كتب الأجل الأيام؟ كتبت الأرزاق كتبت الآجال، الشقاوة والسعادة، فماذا تريد ماذا تريد عبد الله؟ لقد خلقك الله للدين، لا لأن تكون من أهل الدنيا، وليس بحرام أن تأخذ من الدنيا الحلال، فالله يقول: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].
لكن الدنيا تذم يوم أن تكون هي المقصد، وأمر الدين يكون أمرًا استثنائيًّا أمرًا إضافيًّا، والواجب أن يكون الدين هو الأساس، ويكون ما سوى ذلك أمرًا إضافيًّا استثنائيًّا.
الدين رأس المال فاستمسك به
فضياعه من أعظم الخسران
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا ما قلته لكم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، ورضي الله عن أصحاب محمدٍ أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين، إن مما أمر الله سبحانه وتعالى به إقامة صلاة الجمعة، وتأديتها على الوجه الذي يريده الله سبحانه وتعالى، فالله أمر بتأدية الصلاة؛ أعني صلاة الجمعة، وجاءت الأحاديث توضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى عمَّم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فصَّل، فهذا اليوم هو يوم الجمعة من أفضل أيام الأسبوع؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)[11].
فهذا اليوم يوم مبارك ويوم فاضل، كان علامة بارزة ومنحة سامية من الله جل وعلا لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يجتمعون في هذا اليوم، ماذا يريد المسلمون من اجتماعهم في هذا اليوم.
يا أيها الإخوة الفضلاء، لو عرَفنا السر في ذلك لرغبنا فيما عند الله، إن سرَّ هذا اللقاء والاجتماع من أجل سماع الوعظ، من أجل سماع التوجيهات، من أجل مفاقدة المرضى، ومن أجل النظر في أحوال أهل الإسلام، حينما يجتمعون تحت سقف واحد، ويسمعون كلامًا يوجِّههم إلى مرضاة الله والدار الآخرة، لكن هذه المعلومة فُقدت عند الكثير من المسلمين، فلو طالعت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لوجدت أنه أمر بالمبادرة وحث على ذلك، وقبل ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، فقال كما في الحديث الصحيح: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)[12]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)[13].
وهكذا أيضًا يستحب أن يمس من الطيب والدهن، وأن يمتشط وأن يلبس أحسن ما يجد، وألا يفرق بين اثنين، ويقول في حديث آخر: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح [في الساعة الأولى] - والمراد بالساعة الأولى يعني الساعة السابعة صباحًا - فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام طوت الملائكة الصحف، وحضروا يستمعون الذكر[14].
هذه الترتيبات في الأجور على حسب الأولويات، ماذا قال صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا خرج الإمام) - أي خرج الخطيب فيستحب للخطيب أو للإمام، أن يكون آخر خروجًا، أو من آخر الوقت خروجًا، كما استنبط كثير من الفقهاء ذلك، هذا إذا كان الخطيب بجانب المسجد، أما إذا كان بعيدًا، فيُستحب لأن يبكر حتى يكون من المبادرين لاستباق الخيرات؛ لأنه ربما يحال بينه وبين الوصول إلى المسجد، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر).
فالملائكة يسجلون الأول فالأول، من أجل الأجور، من أجل ترتيب من يدخل وإعطائه الثواب من الله سبحانه وتعالى[15]، فتأملوا يا رعاكم الله من آداب الجمعة التبكير لصلاة الجمعة، الكثير من المسلمين لا يهمه أمر الخطبة، وإنما تهمه الصلاة، فيأتي من آخر الناس، وربما كان قريبًا من المسجد، لكنه قد اعتاد على ذلك، فهذا فيه نقص في الاستقامة، نقص في الالتزام وعدم المبالاة بالدين، إلا أن يكون معذورًا بنوم أو بسفرٍ أو بمرضٍ، أو بشغلٍ لا يستطيع أن ينفك عنه؛ كأن يكون مع أهله في المستشفى، أو في العيادة، أو أمر لا سمح الله، أما إن كان صحيحًا معافى، فيستحب له التبكير.
يوم الجمعة له آداب لا بد أن يكون في جدولك الرسمي، أرأيتم الذي يذهب إلى العمل ويتقاضى في الشهر ثلاثين إلى أربعين ألفًا، لا بد أن يأتي في الساعة الثامنة صباحًا، وينطلق الساعة ثنتين تمامًا لا يتأخر، هو يتقدم لكنه لا يتأخر، هو يتقدم ربما يأتي الساعة الثامنة إلا ربع على أساس يكون موظفًا مثاليًّا، ونحن نؤيده على ذلك؛ لأن الفوضوية في العمل وفي الإدارة أيضًا ليس من الإسلام، فلا بد من الاتزان في كل شيء، لكن لماذا كنا منتظمين في أمر الدنيا، لسنا منتظمين في أمر الآخرة، هذا أمر من الأهمية بمكان، إذًا لا بد من التبكير، ولا بد من قراءة سورة الكهف، لِما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)[16].
وهكذا أيضًا من سننه صلى الله عليه وسلم: الإكثار من النوافل قبل صعود الخطيب إلى المنبر، فقد ثبت في ذلك سنة عنه صلى الله عليه وسلم[17]، فتأتي في ساعة مبكرة تصلي ما كتب الله لك ثمانًا أو عشر ركعات، ليس في ذلك أمر محدد، ثم تكثر من الصلاة على رسول الله، فقد أمر صلى الله عليه وسلم وحث على الإكثار من الصلاة يوم الجمعة، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ يعني بليت؟ فقال: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)[18].
فهو صلى الله عليه وسلم في قبره، كما كان على قيد الحياة، لم تأكل الأرض شيئًا منه ولا شعرة واحدة، استنادًا إلى الحديث الصحيح الذي تحدث به من لا ينطق عن الهوى، فمن صلى على الرسول يوم الجمعة أو غيرها، عُرضت الصلاة على رسول الله، ليكون المقابل أن يصلي عليك الله عشر مرات، استنادًا إلى حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: (من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)[19].
وهكذا أمر السلام، فما من مسلم يسلِّم على رسول الله إلا ردَّ الله عليه الروح حتى يرد عليه السلام، فإذا قلت: اللهم صلِّ وسلم على محمدٍ، فإن الله تبارك وتعالى يعيد روح النبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: وعليك السلام[20]، رسول الله يردُّ عليك السلام ويدعو لك بالسلامة من كل آفة، فهذا أمر يا معاشر المسلمين يجب علينا أن نهتمَّ به، وأن نقدسه في قلوبنا؛ كما قال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج32].
إن الكثير من المسلمين أمر الدين والحديث، وهو لا شك أنه يحبه؛ لأنه من أهل الإسلام، لكن لا مبالاة لكن لو يسأله آخر مائة ريال أو أقل أو أكثر، ويحق له أن يحرص، فقد أمر الله بكتابة الدَّين وكانت أطول آية من القرآن الكريم آية الدَّين، كما في آخر سورة البقرة، لكن لماذا تعظيم الدنيا في قلوبنا أعظم من الدين!
أبني إن من الرجال بهيمة
في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله
وإن يصاب بدينه لم يشعر
فأين الاهتمام بدين الله، وأين تعلم أمر الصلاة وفقهها، نفقه هذه الصلاة نقرأ مثلًا رياض الصالحين وفقه السنة، ومن كُتب في هذا الباب، وهناك أيضًا أطباء نفسانيون كتبوا فيما يتعلق بأمر الصلاة، فالصلاة تعالج كثيرًا من الأمراض النفسية الهموم والغموم، وهكذا ضخ الدماء إلى القلب، فهذه الصلاة لم يكن الأمر بها من فراغ، وإنما لما كان فيها الخير للبدن وللقلب الخير الدنيوي والأخروي، أمر الله سبحانه وتعالى بها ولا يأمر الله إلا بخير.
أسأل الله أن يوفِّقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وأن يغفر لنا ولوالدينا.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسَّرته، اللهم أعطِنا ولا تحرِمنا، وكن معنا ولا تكن علينا، اللهم انصر عبادك المؤمنين يا رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|