الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (2)
من أهمِّ الدروسِ أيها الأحبة التي ينبغي التأملُ فيها وخاصةً من يَسْبُرُ أوراقَ السيرةِ ، ذلكم الأمرُ المهمُ في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم ، ألا وهو أمرُ الهجرةِ وما أدراكم ما الهجرة .
إن الهجرةَ النبويةَ في حدِّ ذاتِها بغَضِّ النظرِ عن أحداثِها تستحقُ الوقفةَ المتأنيَة ، تستحقُ الوقفةَ الثاقبة ، تستحقُ النظرَ الدقيق ، فهي ليستْ نزهةً بريةً ولا وسياحةً بحريةً ، الهجرةُ النبويةُ ليست للتفرجِ والإطلاعِ ، ولا للنظرِ والمعاينةِ ، ولا للسفرِ والتحصيلِ في مُتَعِ هذه الدنيا وملذاتِها ، وإنما هي نقلةٌ جديدةٌ وانتقالٌ وطيدٌ من أجلِ الحفاظِ على العقيدةِ ، الحفاظ على الركنِ الأساسِ ، والأُسِّ المتينِ مع التضحيةِ بالنفسِ والمالِ والأهلِ والولدِ ، نعم .. إنه الحفاظُ على العقيدةِ والمحافظةِ عليها ، فهو مبدؤها وهدفُها وأملُها وغايتُها ونهايتها .
إن الهجرةَ النبويةَ حدثٌ غيّرَ مجرى التأريخ ، حدثٌ حملَ في طياتِه معانيْ الشجاعةِ والتضحيةِ والإباءِ والصبرِ والنصرِ والفداءِ والتوكلِ والقوةِ والإخاءِ والاعتزازِ بالله وحده .
إنَّ حدثَ الهجرةِ النبويةِ حدثٌ جعلَه الله سبحانه طريقاً للنصرِ والعزةِ ورفعِ رايةِ الإسلامِ وتشييدِ دولتِه وإقامةِ صرحِ حضارتِه ، فما كانَ لنورِ الإسلامِ أن يشِّعَ في جميعِ أرجاءِ المعمورةِ لو بقيَ حبيساً في مهده ، إنه حدثٌ شاملٌ كاملٌ متكاملٌ لمن أحسنَ الاستفادةَ منه وأخذَ العبرةَ والعظةَ على أحسنِ وجه ، إنه في الحقيقةِ حدثٌ يعرِضُ منهجَ النبيِ صلى الله عليه وسلم ، منهجَ المعصومِ صلى الله عليه وسلم ، منهجَ من لا ينطقُ عن الهوى ، مهجَ المؤَيَّدِ من ربِ العالمين ، فليست الهجرةُ حدثاً عادياً ، ولا أمرا طبيعيا ، بل هي أمرٌ جللٌ يستحقُ منا الاهتمام بما تحويه هذه الهجرة وما بداخلها من كنوز .
إن بين أيدينا هجرةُ الرسول صلى الله عليه وسلم ، بين أحضاننا هجرةُ النبي صلى الله عليه وسلم وفيها الدواءُ الناجعُ لكثيرٍ من أمراضِنا وأوضاعِنا وعللنا .
إن في هذه الهجرةِ المباركةِ من الآياتِ البيناتِ والآثارِ النيراتِ والدروسِ والعبرِ البالغاتِ ما لو استلهمَتْه أمةُ الإسلامِ اليومَ وعملتْ على ضوئِه وهي تعيشُ على مُفْتَرَقِ الطرقِ لتحقّقَ لها عِزُّهَا وقوتُها ومكانتُها وهيبتُها ، ولعلمت علمَ اليقينِ أنه لا حلَّ لمشكلاتِها ولا صلاحَ لأحوالِها إلا بالتمسكِ بإسلامِها والتزامِها بعقيدتِها وإيمانها ، فوالذي بعثَ محمدا صلى الله عليه وسلم بالحقِ بشيراً ونذيراً ما قامتِ الدنيا إلا بقيامِ الدينِ ولا نالَ المسلمونَ العزةَ والكرامةَ والنصرَ والتمكينَ إلا لما خضعوا لربِّ العالمين وهيهاتَ أن يَحُلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلا باتباعِ نهجِ الأنبياءِ والمرسلين ، ومن هنا جئنا لنتحدثَ هذه الليلة حولَ بعضِ المفاهيمِ والدروسِ والعبرِ والعظاتِ المجتناهْ من هجرةِ المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وإني لمَّا كنتُ أُقلِّبُ صفحات هذه الهجرةِ المباركةِ عرضتُ أتذكرُ حكمةً عربيةً قديمةً تقول " من أخْصَبَ تخيّر " أي من وجدَ الأرضَ الخِصبةَ الوفيرةَ تخيَّرَ المرعى ، فرأيتُ الحكمةَ تنقلبُ علي َّ فإني لم أَعُدْ أجدُها وأنا أقلبُ صفحات هذهِ الهجرة " من أخصب تخير "
ولكني وجدتها " من أخصب تحير " فماذا أقول الليلةَ وماذا أدع ..؟ فلا أكتمُكم أحبتي أنني وقفتُ أمامَ المفاهيمِ والدروسِ التي اطلعْتُ عليها ، واحترت : نعم .. احترتُ أيَّ مفهومٍ من هذه المفاهيم آخُذ ؟ وأيها أترُك ؟ أيها أدعُ ؟ وأيها ألتمس ؟ ووصَلَتْ معي هذه المفاهيم وهذه الدروسُ عددا وكمّا كبيرا ، ولكن مراعاةً للوقت ، وتركيزاً على بعضِ النقاط ، وإلا لا أقولُ "على المهم ، أو الأهم " فكلُ هجرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مهمة ، وتركيزاً على بعضِ النقاطِ التي تزدادُ حاجتنا إليها ؛ سأذكرُ بعضَ الوقفات ، وبعضَ المفاهيم وبعضَ الدروس التي أخذتها من استيعابِ هذه الهجرةِ المباركة ، فما أجملَ أن نُشيرَ إشاراتٍ عابرةٍ لعددٍ من القضايا المهمةِ الجديرة بالإشادةِ والتذكيرِ في هجرة رسولِ العالمين الذي أسأل الله بمنه وكرمه أن يُلحقنا به وأن يحشرَنا في زمرته وأن يُسقِيَنَا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبدا
/
سلمان بن يحي المالكي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|