01-10-2023, 09:25 AM
|
|
SMS ~
[
+
]
|
|
|
|
شهود لا ترد شهادتهم (خطبة)
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل الرسل وخلاصة العباد، الذي دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة، وهداها إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأفعال والاعتقاد، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فيا أيها المسلمون، فإنه يقتضي لتحقيق العدالة أن تُتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه، إذا اتُّهم باقتراف خطأ، أو ارتكاب جرم، فلا تتقرر العقوبة إلا بعد ثبوت ارتكاب الجرم قطعيًّا، ذلك أن الأصل القانوني يقول: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ليحفظ بذلك حقه في أن تتاح له فرصة الدفاع عن النفس، وإنكار التهمة الموجهة إليه، بحضور محامٍ مختص، يتولى الدفاع عنه، ويكشف الثغرات القانونية في القضية محل النظر، ولو لم يكن بمقدور المتهم توكيل محامٍ يدافع عنه، فإن من مسؤولية المحكمة توفير محامٍ يدافع عنه على نفقة الدولة، كل ذلك بغرض تحقيق أركان المحاكمة العادلة؛ فإذا كان الحال بين البشر على هذا النحو، فكيف سيكون الحال في يوم القيامة؛ حيث تتجسد هناك أعلى درجات تحقيق العدالة، إذ مع كل ما يحيط بيوم المحشر من أهوال تشيب منها الولدان، إلا أن الله سبحانه وتعالى يتيح للإنسان فرصة الدفاع عن نفسه، ومحاولة تبرئتها؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾ [النحل: 111]، ولا يمكن أن يحكم الله تعالى بالعقوبة على الإنسان إلا إذا ثبتت عليه التهمة، واستنفد كل الحجج والمبررات، حتى لم يعد أمامه مجال للإنكار، فيجد نفسه مقرًّا معترفًا بجرمه، وهذا هو منتهى تحقيق العدالة.
وإن من الطبيعي في يوم القيامة أن يجهد المرء في الدفاع عن نفسه، والتنصل من أفعاله، خاصة وهو يرى أهوال يوم المحشر ماثلة أمام ناظريه، ويعاين نار جهنم ﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ [الملك: 8]، فيحاول عندها بكل طريقة وبأي وسيلة أن يتنصل مما اقترف من أفعال ويتبرأ منها، حتى يصل به الأمر إلى أن يحلف بالله بأنه لم يرتكب ذلك الجرم، ولم يقترف تلك السيئة.
قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ﴾ [المجادلة: 18]، فكما يبالغ الإنسان في الحلف للناس في الحياة الدنيا، رغبة في دفع التهمة عن نفسه، كذلك يفعل أمام خالقه في يوم المحشر، غير أنه في مقابل ذلك الحلف المبالغ فيه، تتوفر كثير من الأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة، والجهات المتعددة التي تشهد على الإنسان، فتأتي أعظم شهادة، ويأتي أعظم شهيد، فكفى بالله شهيدًا، تأتي شهادة الله الذي اطلع على كل خافية منا، الذي علم ما قدمنا وما أخرنا، الذي ما غابت عنه غائبة الصدور، الذي علم ما في السرائر، وتجلى له ما في الضمائر، يأتي ربك سبحانه، لتبدأ شهادة الله: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، ماذا كنت تظن - يا عبدالله - يوم أن قصرت في الطاعة؟ ماذا كنت تظن - يا عبدالله - يوم أن أقدمت على المحرَّم؟ أظننت أنك تستتر عن عين الله؛ تذكر هذا المقام: ﴿ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61]، فكيف المقام بين يدي الله، تأملوا هذا المقام؛ مقام شهادة الله سبحانه، واجعلوا هذه الآية نصب عينيكم، إذا تقدمتم أو تأخرتم، إذا قمتم أو قعدتم، إذا ذهبتم أو أتيتم؛ تذكروا دائمًا هذه الآية: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]، أما يكفي لتنزوي عن الحرام، ولترتدع عن الآثام، ولتمتنع عن أكل ورؤية وفعل الحرام والإجرام؛ تذكر هذه الآية، وكفى بها ذكرى، ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
أيها الإخوة الكرام، فماذا يحدث بعد هذا؟ إذا بوفود الشهود تفِد على الله، وأنت قائم بين يديه، وإذا بملائكة الله سبحانه وتعالى تتقدم للشهادة؛ ملائكة الرحمن سبحانه، لم يعصوا الله سبحانه وتعالى ما أمرهم، بل هم الذين يبادرون فيفعلون ما أمرهم الله، تتقدم الملائكة للشهادة، واسمعوا لموقف شهادة الملائكة؛ فإنه موقف عظيم؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21]، يسوقك مَلَكٌ، ويشهد عليك ملك، يا ألله هذا الذي وكلتني به، وإني لصادق أمين، يا ألله هذا الذي استشهدتني عليه، وإني لما قال وفعل مبين، يا ألله، كان يفعل كذا، وكان يعمل كذا، كم مرة استتر من أعين الناس ليأكل فيها الحرام الذي حرمت! كم مرة اختفى عن أعين الناس لينظر وليسمع الحرام الذي أثمت! ويشهد عليك الملك بين يدي الله رب العالمين، فإذا بك تنظر أمامك، أمامك ملك يسوقك إلى الله، فإذا بك تنظر خلفك، وخلفك شهيد من الملائكة يشهد عليك بين يدي الله.
وتفِد الشهود، شهود لا يعرفون المجاملة ولا الواسطة، ولا يزيدون ولا ينقصون، ولا يكذبون ولا يمتنعون، شهاداتهم واضحة، وعباراتهم مفهومة، لا تحتاج إلى إيضاح أو تفصيل؛ شعارهم ﴿ أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [فصلت: 21].
فمن الذي سيشهد؟ وعلى من سيشهد؟ وبماذا ستكون الشهادة يوم القيامة؟ أخي المبارك، تأمل نفسك الآن، وتخيل نفسك الآن، وأنت بين يدي الله رب العالمين، قمت بين يدي الله رب العالمين، وقد أذن الله تعالى بدخول الشهود، وفي محكمة العدل لا يشهد إلا شهود الصدق، وبدأ الشهود يتوافدون، فمن الشاهد الذي سيقف خصمًا لك يوم القيامة؟ من هو هذا الشاهد الذي سيشهد عليك بين يدي الله رب العالمين؟
• شاهد لا يملك الإنسان ردَّ شهادته، وهو مكان اقتراف الذنب، وارتكاب الجريمة؛ هذه الأرض التي نمشي عليها، ونأكل ونشرب عليها، وننام عليها، سيأتي يومٌ تشهد هذه الأرض بكل ما عمل عليها من خير أو شر، فالذي يعمل الطاعة على هذه الأرض تشهد له يوم القيامة، بل تبكي عليه، إذا رحل من هذه الدنيا، بخلاف أهل الكفر والفسوق: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ﴾ [الدخان: 29].
ستشهد هذه الأرض على من سافر ليفعل الحرام وينظر في الحرام، ستشهد هذه الأرض على كل فتاة خرجت متبرجة إلى الأسواق لتفتن الشباب، ستشهد هذه الأرض على كل من ظلم إخوانه المسلمين في لُعَاعة من الأرض؛ فالأمكنة تشهد على الإنسان أنه ارتكب فيها ما ارتكب، وفعل فيها ما فعل؛ قال تعالى في شأن الأرض: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 - 4] ما لها؟ ستعرف ما لها يوم القيامة إذا تزلزلت، ستعرف ما لها يوم القيامة إذا أثقالها أخرجت، ستعرف ما لها يوم القيامة إذا بين يدي الله تحدثت، فأي فعل فعله العبد في أي بقعة من بقاع الأرض، فإن تلك القطعة من الأرض تأتي يوم القيامة؛ لتشهد لصالح المرء أو عليه.
• قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي نقرؤها كثيرًا، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4]، فوقف صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أتدرون ما أخبارها؟ أخبارها أن تشهد يوم القيامة على كل نفس بما عملت عليها من خير وشر، تقول الأرض يوم القيامة: فعلت عليَّ كذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها))، والحديث حسنه بعض أهل العلم، وضعفه بعضهم.
فاتق الله يا عبدالله، إذا جاء المكان يشهد، وإذا جاء الزمان يشهد، ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 26 - 29].
• حتى الزمان يشهد يا عباد الله، فأي عمل يعمله العبد فهو في إطار زمن معين، هذا الزمن يأتي يوم القيامة شاهدًا على الإنسان؛ وقد ورد عن الحسن البصري أنه قال: "ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يومٌ جديدٌ، وأنا عليك شهيدٌ، فقل فيَّ خيرًا، واعمل فيَّ خيرًا، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعدها أبدًا"، يقسم ربي، وصدق ربي؛ فقال: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 1 - 3].
• فما الشاهد يا عباد الله؟ عند الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، واليوم الشاهد يوم الجمعة))، هذا اليوم يومٌ شاهدٌ يوم القيامة لك أو عليك، هذا اليوم سيشهد علينا - يا عباد الله – بأعمالنا، أفضل الأعمال تشهد، وأفضل الأماكن في الأرض تشهد، يشهد المكان، وأفضل مكان في الأرض يشهد، حجرٌ أنزله الله تعالى من الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام: ((الحجر الأسود والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، وله أذنان يسمع بهما، وله لسان ينطق به، يشهد على كل من استلمه بحق)).
وعن جابر بن عبدالله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغفر للمؤذن مد صوته، ويشهد له يوم القيامة كل من سمِع صوته من شجر، أو حجر أو مدر، أو بشر، أو رطب، أو يابس، ويُكتب له مثل أجر من صلى بأذانه، وساق حديثًا طويلًا)).
وقال علي رضي الله عنه: "إذا مات المؤمن بكى عليه مصلاه من الأرض، وبابه من السماء"؛ [رواه المروزي بسند حسن].
أيها الأحبة الكرام: وقد يمعن الإنسان يوم الحساب في إنكار أفعاله والتنصل منها، فيأتيه الله تعالى بمزيد من الشهود الذين لا قِبل له بردِّهم؛ إنها شهادة جوارحنا وأعضائنا، يوم تشهد علينا في ذلك اليوم العظيم، عندما يسألنا الله عن كل صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، فتشهد جوارحنا على معاصينا، وتعترف أعضاؤنا بما عملته من معاصٍ وآثام.
يقول الله سبحانه وتعالى مصورًا ذلك المشهد الرهيب والموقف الصعب: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: ألا تحدثوني بأعاجيبِ ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتيةٌ منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوسٌ مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلةً من ماء، فمرت بفتًى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غُدَرُ إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، صدقت)).
في ذلك اليوم يخرس الله سبحانه وتعالى أفواههم، فلا يقدرون على الكلام، ولا يستطيعون النطق، ولا يقدرون على المجادلة والمناقشة التي لم تعد تنفعهم، ولا تغني عنهم شيئًا، فإذا خرست ألسنتهم، وتجمدت أفواههم، ولم تنطق، شهدت عليهم جوارحهم، فتتكلم أيديهم بما اقترفته من أخذ الحرام، وسرقة أموال الناس، وظلم الآخرين والتعدي عليهم بالضرب والفعل، وتشهد أرجلهم بما فعلته من آثام وموبقات مشوا إليها بأرجلهم، ومارسوها بتلك الأرجل التي تتجه إلى الحرام وتمشي إليه.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيُختم على فيه، فيُقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسحقًا، فعنكن كنت أناضل)).
يسب العبد أركانه، ويتبرم من أعضائه؛ لأنها فضحته وشهدت عليه، فيقول لهن: هلاكًا لكن، وسحقًا وبعدًا لكن، فعنكن كنت أجادل وأدافع؛ حتى لا تقعن في العذاب، وتصطلين في النار، واليوم تأتي فضيحتي منكن، وتصدر الشهادة عليَّ من خلالكن، فيا للحسرة والندامة، أخاصم لخلاصكن، وأنتن تلقين أنفسكن فيها.
أيها الناس: إنها – والله - قاصمة الظهر أن تشهد عليك جوارحك، وتنطق أعضاؤك ضدك، فكيف الموقف في تلك الساعة الحرجة؟ وماذا يقولون حينئذٍ؟ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد عباد الله:
ففي موقف آخر تشهد الألسنة نفسها بما قالته من كذب وغيبة، ونميمة وزور، وبهتان وافتراء، فتقول: قلت كذا وكذا، ونطقت بكذا وكذا، وشهدت زورًا وبهتانًا على كذا وكذا؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].
إنه عدل الله سبحانه وتعالى ينطق عليهم ألسنتهم، ويجعلها شاهدة عليهم، فماذا سيقولون حينما تشهد عليهم جارحة من جوارحهم؟ وكيف سيعترضون أو ينكرون حينما يرونها تشهد ضدهم، وتقف خصمًا لهم، وتكون شاهدة عليهم لا لهم؟
روى أبو يعلى الموصلي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة عُرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيُقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقول: أهلك عشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقول: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله، وتشهد ألسنتهم، ثم يدخلهم النار))، هذا حالهم نعوذ بالله من الخذلان.
فإذا علمنا وأيقنا أن جوارحنا ستكون فاضحة لنا، وشاهدة علينا يوم القيامة، فما علينا إلا أن نتقي الله في أنفسنا، ونحتاط لها، وننتبه كل الانتباه، ونحذر كل الحذر من أن نكون ضحية لهذه الشهادة العظيمة التي تأتي من داخلنا، ومن نفس أعضائنا وجوارحنا.
علينا أن نحاول بكل ما أوتينا من استطاعة وقدرة أن نجعل شهادة الأعضاء لصالحنا لا ضدنا، ولنا لا علينا، ولن يكون هذا إلا بتحقيق تقوى الله سبحانه وتعالى، ومراقبته في كل حركاتنا وسكناتنا.
إذا أردنا تحقيق ذلك، فيجب علينا أن نتقي الله في هذه الأعضاء، نتقي الله في ألسنتنا، فلا نتكلم بالحرام، ولا نقول الحرام، ولا يصدر من ألسنتنا قولًا محرمًا؛ كالكذب، وقول الزور، والكلام بالباطل، والسب واللعن، والقذف وغيره.
ولنتقِ الله في أيدينا فلا نبطش بالحرام، ولا نأكل الحرام، ولا نعتدي على أحد بالباطل، ولا تصل أيدينا إلى ما لا يحل لها أن تصل إليه، سواء كان ذلك عبر السرقة، أو الغصب، أو غيره.
ولنتقِ الله في أرجلنا، ولنقصرها قصرًا على ألَّا تمشي إلا إلى ما يجوز لها أن تمشي إليه، ولا نسمح لها أبدًا بالجري إلى الحرام، أو المشي إلى أماكن لا تحل لنا، ولا يجوز المشي إليها.
لنتقِ الله في كل أعضائنا وجوارحنا، فإن أنفسنا التي بين جنبينا ليست ملكًا لنا، وإنما عهدة عندنا وستعود إلى الله، ويبعثها من جديد كما كانت، فيحاسبها على كل شيء، فإيانا ثم إيانا أن نكون سببًا في شقاء أنفسنا وتعاستها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 105]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 23].
فهذه الآيات الثلاث كلها تأمرنا بأن ننتبه لأنفسنا، ونبعدها من عذاب الله وسخطه، فكل واحد منا مسؤول عن نفسه ولا دخل له بغيره، فليحرص على هداية نفسه، وإبعادها عن الضلال والضياع، فمن بغى وأصر، فليعلم أنه بغيه سيكون في النهاية على نفسه، اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غِنًى لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واحفظ جوارحنا من الوقوع في الحرام، واجعلها شاهدة لنا لا علينا يوم لقائك، اللهم هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلًا، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولَّ أمرنا، لا إله إلا أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-10-2023, 09:33 AM
|
#2
|
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-10-2023, 03:29 PM
|
#3
|
بارك الله فيك وجزاك خير الجزاء..
على كل ما تقدم لنا من درر قيمة..
جعلها الله في موازين حسناتك..
مع كامل التحية والتقدير..
حفظك المولى وحماك..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-12-2023, 08:03 PM
|
#4
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 09:25 AM
| | | |