النبي ومعالجته السياسية في المدينة المنورة
يعرف الجانب السياسي بأنه مجموعة من الإجراءات والآليات التنظيمية - الحضارية، والتي اتخذت من قبل القائمون على الحكم السياسي في العصر الاسلامي منذ عهد النبي، ومن تولى حكم دول الإسلام بعده؛ اعتمادًا على (القرآن والسنة وغيرها من مصادر التشريع)، وهي بمجملها ردود فعل على فعل حمل أحداثًا عامة قامت في أزمنة متباينة استلزمت معالجة كل حالة على حدة، مع الاستئناس بآليات خاصة في الحوادث المشتركة، وقد مثلت في مجموعها الفقه الحضاري في الجانب السياسي والعسكري، ومنهجًا لمن جاء بعد هذه الفترة، ودليلًا للحكم الإسلامي الذي وضع بصماته العميقة في تاريخ الإنسانية.
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم دولته في المدينة المنورة، وقد أخذت هذه الدولة الفتية مادتها من العمق التشريعي الإسلامي مع الاستئناس بمورث العرف السليم المتداول قبل الإسلام؛ (كالشورى وتكوين المجالس الاستشارية في الازمات والملمات، واختيار الكفء في المناصب السياسية والعسكرية وغيرها)؛ إذ إن تجذُّرَ القبيلة في نفوس المسلمين واحتوائها على عناصر إيجابية ممكن الإفادة منها في إدارة الدولة صعَّب من إلغاء وجودها.
لقد وضع النبي حجر الأساس للمعالجات السياسية عندما أنشأ صلى الله عليه وسلم دوله المدينة من عدة مكونات مختلفة دينيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا، إذا حوت الدولة أفرادًا من ستة قبائل، ثلاث منها عربية، وهي الأوس والخزرج، وقريش، وثلاث منها يهودية وهي قريظة والنضير وقينقاع، وقد اشتملت العلاقات التاريخية بين هذه القبائل على خلافات وصدامات، فكان لا بد من جمعها تحت منهج سياسي موحد؛ مثل دستور المدينة (صحيفة المدينة)، (المنهج الرائد لفقه الحضاري الإسلامي)؛ إذ إن الخروج من عقلية القبيلة إلى عقلية الدولة استلزم التدريب والمِران على عدة أمور؛ منها: الولاء للعقيدة بدل الولاء للقبيلة، والطاعة للنبي بدل الطاعة لشيخ القبيلة، والنصرة لإخوان العقيدة ضد إخوان القبيلة، لقد أعطى النبي هذه الفئات الحقوق، وفرض عليها الواجبات، لا سيما تلك التي تتعلق بالدفاع عن المدينة إذا ما هاجمها عدو خارجي، فضلًا عن منعها من إقامة علاقات سياسية مع العدو الأول لأهل المدينة، والمتمثل في قريش، وبهذا يمثل نقلة في الفقه الحضاري السياسي الإسلامي عند المسلمين، ومعالجة سياسية سليمة تتوافق وطبيعة المرحلة.
إن هذه النقلة السياسية التي مثلت النواة الأولى للفقه الحضاري في جانبه السياسي، وإعطاء المساحة لتكوين الدولة المتنوعة الأديان والأعراق والعادات والتقاليد، هو نفسه ما نراه اليوم من طبيعة الدول في واقعنا المعاصر، إذا لم تنمُ العقلية السياسية العربية أو حتى الأعجمية نموًّا كافيًا لتأسيس هذا النظام السياسي آنذاك، فكانت الدول عبارة عن قبائل كبيرة أسست كيانات سياسية؛ كالغساسنة والمناذرة وغيرها، أو الدول التي أسِّست على الأساس الديني، على العكس من دولة المدينة التي ضمَّت المضريين والقحطانيين واليهود - كفئات متوازنة - وهو ما يصعب جمعه على غير شخص النبي صاحب القدرة العقلية الكبيرة والرؤيا المستنيرة، وصاحب التأييد من الوحي.
لقد مكنت هذه القدرة العظمية المؤيدة بالوحي نبي الله أن يستثمر الظروف الراهنة آنذاك لإنشاء الفكر السياسي ومعالجته، فمن ضمن هذه المعالجات عقد المعاهدات الثنائية بين دولة المدينة والقبائل المشركة المحيطة بها؛ ليأمن شرَّها من جهة، ويجعل منها سورًا أمنيًّا متقدمًا للدفاع على المدينة من جهة ثانية، ويقطع أواصر التعاون السياسي العسكري بينها وبين قريش من جهة ثالثة، وهذه المعالجات السياسية تحسب للعقلية النبوية في توجيه الأحداث لصالح التجمع العقَدي الإسلامي.
كما ضمت المعالجات السياسية أيضًا أبعادَ خيار الحرب لأقصى مدة ممكنة، من خلال التجاهل للاعتداءات والصبر عليها، وترك الأرض التي وُلد فيها ونشأ، والهجرة إلى غيرها من البلاد، ولما تعذر إلا الحرب، وضَع الخيارات الثلاثة، لعل في أحدها ما يمنع نشوب الحرب؛ حيث يُدعى العدو إلى الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أبى فالجزية في أناس مخصصين، فإن أبى إلا الحرب فهو وما رغِب.
فضلًا عن تغيير النبي طبيعة الاقتتال بين الأطراف المتعارف عليها قبل الإسلام، من نمط الحروب الطويلة الأمد؛ كحرب داحس والغبراء وحرب البسوس، أو حرب الفرس والروم، إلى نمط الغزوات السريعة قصيرة الأمد التي غالبًا لا تستغرق إلا ساعات معدودة، لتقليل الإصابات في الطرفين، وإيصال رسالة إلى الطرف الآخر.
إن الحرب هي وسيلة أُجبِر عليها المسلمون، ولم تقع ضمن اختيارهم، وإن ما يريده الإسلام هو تبليغ دين الله لعباده، وليس قتلهم.
كما أوصى الرسول قادته في غزوة مؤتة، وسار عليها خلفاؤه وقادتهم فيما بعد؛ حيث قال: ((اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأةً ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرة، ولا تهدموا بناءً، كما أنه تعمق أكثر في الفقه الحضاري في جانبه العسكري، وأوصى بعدم إيذاء الناس، وتضييق مسالكهم، فقال: من ضيَّق منزلًا، أو قطع طريقًا، أو آذى مؤمنًا، فلا جهاد له، بل إنه نهى حتى عن إيذاء الضعيف من الحيوان، فيروي عبدالله بن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِيهِ قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ أَحْرَقْنَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُعَذِّبُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَعَزَّ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا خَالِقُهَا»، وَقَالَ: وَمَرَرْنَا بِشَجَرٍ فِيهَا فَرِيخَا حُمَّرَةَ، فَأَخَذْنَاهَا، فَجَاءَتْ حُمَّرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تُعَرِّشُ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِفَرْخِهَا؟»، قَالَ: «فَرُدُّوهَا إِلَى مَوْضِعَهَا» فَرَدَدْنَاهَا، فضلًا عن تغييره مسار الجيش من أجل كلبة كانت ترضع أبناءها، وتكليف أحد الصحابة وهو جعيل بن سراقة أن يقف بمحاذاتها، حتى لا يؤذيها الجيش العرمرم الذي فتح مكة والبالغ عشرة آلاف جندي، كما نهى النبي عن التمثيل بالقتلى وأمر بدفنهم، وقال: لا تمثلوا حتى بالكلب العقور، فكانت المعالجات السياسية قائمة حتى في وقت القتال الذي يعد وقتًا استثنائيًّا لا يمكن ضبطه غالبًا.
لقد عبر النبي في غزواته مع أعدائه عن فقه حضاري منقطع النظير، ففي أسرى بدر وبالرغم من كونهم أعظمَ أعدائه، ومن تناوبوا على إيذائه، كان الفداء بالمال الخيار الأول، ثم تعليم صبيان المسلمين الخيار الثاني، مع التوصية بحسن المعاملة، وألا يُجَرُّوا مقيدين، وأن يشاركهم المسلمين زادهم وماءَهم، وهو ما لا نراه من قريش نفسها؛ حيث مثلوا بالمسلمين في غزوة أحد، ونكَّلوا بالأسرى؛ (كخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة) في بئر معونة، ثم قتَلوهم في النهاية.
لقد مثل النبي وخلفاؤه الفقه الحضاري الإسلامي في شقه السياسي خيرَ تمثيل، وقد كان الأساس الذي سار عليه أغلب خلفاء المسلمين وحكامُهم، مع إضافات تتناسب مع طبيعة الموقف وظرفه آنذاك، فكانت تلك المعالجات السياسية النواة التي بُنيت عليها الأفكار السياسية للخلفاء والفقهاء فيما بعدُ.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|