الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ (1)
ي
ستَلفِت كاتب المقال أنظارَ قرَّائه إلى أنَّ الاحتفاء بـ"عيد رأس السنة الهجرية" أمرٌ لم يكن على عهد المُصطَفى صلوات الله وسلامه عليه ولم يُعرَف في خير القُرُون - قُرُون الراشدين والأصحاب والتابعين للحقِّ بإحسان - وما يحدث الآن في بعض أرض الإسلام مُضاهاة لقوم آخَرين، لكن السُّحب العارضة يجب ألاَّ تحول بيننا وبين اجتِلاء الحقيقة والتملِّي من أنوارها؛ ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، تفرَّد بالوحدانيَّة.
والصلاة والسلام على سيِّد الأنام، إمام الإنسانيَّة، وعلى آله وجنده وتابِعيه وصحبه الذين هم خير البريَّة.
وبعد:
فمنذ أشرقت الأرض بنور القرآن كان هذا بدء تحوُّل في تاريخ الإنسانيَّة كلها، وتغيُّر في حركة التاريخ، وإذا كان الإسلام أكمل منهج جعَلَه الله صلاحًا وإصلاحًا لأحوال البشر أجمعين، فإنَّ المنهج يحتاج إلى حركةٍ تُجسِّده: واقعًا ملموسًا، وحقًّا مشهودًا.
ولقد كانت الهجرة المحمديَّة هي الحركة التي أسَّست (دولة العقيدة)، وأقامت (ملكوت الله على الأرض)، فعرفت البشريَّة (المجتمع الرباني) قائمًا بالحق والعدل، بعدما انقَضَتْ قُرُونٌ من عمر البشريَّة كان الحق فيها أمنية تطوف بأحلام المُستَضعَفين، والعدل فيها خُرافة في ميزان الظالمين.
والصحائف القادمة: إشارات ضوئيَّة نلقيها على بعض أحداث الهجرة ومَعانِيها، ليكون ماضينا الخالد دروسًا رائدة، وعبرًا هاديةً، تقود خُطانا إلى عزَّة الحاضر، وإلى الآمال الواعدة في المستقبل.
ومن الله المَدَد والإعانة، ومنه السداد والتوفيق، والتوفيق خير الأرزاق.
الهجرة في اللغة:
الهجر: الترك والابتعاد والاعتزال.
والهجرة: ترك وطن ومغادرته إلى موطن آخر.
لكل نبي هجرة:
تَكاد تكون الهجرة سنَّة محتومة، وقاعدة شبه مُطَّرِدة في تاريخ دعوات الحق، وفي سير الدُّعاة إلى الله، وإذا كان المقام لا يتَّسِع للبسط والتفصيل، فإنَّ الإيجاز قد يُغنِي أحيانًا عن الإطناب.
ونستَرعِي نظر القارئ إلى أنَّ الهجرة قد تكون تحرُّكًا بالدعوة، وقد تكون إنقاذًا لمجتمع المؤمنين، وهاك بعضَ الأمثلة:
نوح عليه السلام:
مكث نوح صلوات الله عليه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا يدعو قومَه إلى إسلام الوجهِ لله الواحد الأحد، ولكنَّهم أصرُّوا على العناد واستكبَرُوا استِكبارًا، حتى جاءه أمر الله؛ ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]، وأمر بصناعة السفينة، لتكون مركبًا للمؤمنين المهاجرين بإيمانهم، الناجين بتقواهم؛ كما قال سبحانه: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40].
وتظلُّ السفينة التي حملت المجتمع الجديد ﴿ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ حتى وصلت إلى المرفأ الأمين، ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، وباستِواء السفينة انتهَتْ مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل في تاريخ البشريَّة، وآذَن الله - سبحانه - نوحًا بقِيام (مجتمع الإسلام) على البركات والسلام، ونص الإعلان الرباني إلى نوح هو: ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[هود: 48].
إبراهيم عليه السلام:
أمَّا إبراهيم عليه السلام الذي كانت دعوته إلى الله بأرض العراق فقد كانت له هجرات إلى الشام، وإلى مصر، وإلى أرض الحجاز، واسمع حديث القرآن عن هجرة إبراهيم إلى الشام بعد نجاته من محاولة تحريقه بالنار على يد نمروذ العراق وأبالسته؛ يقول سبحانه: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 71]، وهذه الأرض التي جعَل الله إليها هجرة إبراهيم ولوط ونجاتهما هي الأرض المقدَّسة بفلسطين.
موسى عليه السلام:
أمَّا كَلِيمُ الله موسى عليه السلام فقد كانت له كذلك هجرات قبل بعثته وبعدَها، هاجر قبل البعثة إلى أرض مدين، بعد أنْ خرَج من مصر خائفًا يترقَّب، وعاد إليها بعد الوحي إليه، ثم هاجَر منها بعد أنْ كذَّبَه فرعون، وأراد أنْ يبطش به وبِمَن آمَن معه فأمره الله بالهجرة؛ ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ [طه: 77 - 79].
لماذا الهجرة؟
قضَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثةَ عشر عامًا في مكَّة يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد، ونبذ عبادة الأوثان، والكفر بكلِّ ما على الأرض من طواغيت، وكانت وسيلته في الدعوة: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجِدال الرَّفيق بالتي هي أحسن، ومنهجه دائمًا هو: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
كان رسولنا يريد من المجتمع المكي أنْ يخلي بينه وبين الدعوة إلى الله، ولقد كان عظيم الرِّفق، طويل الصبر في البَلاغ، وسلَك إلى ذلك وسائل الإقناع الواضح الرشيد، ومن أروع هذه الوسائل أنْ يقول ما علَّمه له ربُّه أنْ يقوله ممَّا أنزله عليه من الكتاب: ﴿... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، وليس هو إلاَّ على الحق المبين، لكنَّه أدب المحاورة في أسمى صوره.
بل يعلِّمه أنْ يقول: ﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 25]؛ أي: إن كانت الدعوة إلى تَخلِيصكم من عبادة البشر، والخضوع الذليل أمام الحجر جريمة - فليس عليكم شيءٌ من وِزر جريمة (التوحيد، التحريم)، فهل بعد هذا رِفقٌ في البَلاغ، وتواضعٌ في الخطاب؟
لكنَّ الجاهليَّة المكيَّة لم تتقبَّل دعوةَ الإسلام بالكِبر الأعمى، والكُفر الأصم، والعِناد الجاحد فقط، بل شنَّت عليها حربَ الإبادة في تبجُّح مستهتر، وأبَتْ عليها حقَّ الحياة.
تعرَّض الداعية الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لصُنُوف شتَّى من السخرية والاستِهزاء، والإيذاء والإعنات؛ ليترك الدعوة إلى الله: فمرَّة يُلقِي عليه عقبة بن أبي معيط لعنه الله فرث جزورٍ (كرش جمل بما فيه من قذر)، ومرَّة يخنقه بثَوبِه وهو ساجدٌ عند الكعبة، ومرَّة يُحاوِل أبو جهل أنْ يُحطِّم رأسه بحجر وهو يُصلِّي، وأمَّا الحقد المحموم من عمه أبى لهب وسَفاهات امرأته حمالة الحطب، فهما ممَّا يخزي الشرك وأهله.
وأصدق تصويرٍ لأحقاد الجاهلين ومكايدهم، ما قَصَّهُ ربُّنا سبحانه وتعالى في قوله لرسوله: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
هكذا يكيدون ويتآمرون:
1- إمَّا لإثباته بحبسه ووضعه في القُيُود، أو وضع القيود حوله فلا يستَطِيع السعي إلى الناس لدعوتهم، فلا يملكون السعي لسماع دعوته وتدبُّر الوحي إليه؛ لأنَّه مسجونٌ مُبعَد عن الناس.
2- وإمَّا لقتله بوسيلةٍ ماكرة غادرة تخلُّصًا منه ومن دعوته.
3- وإمَّا لإخراجه ونفيه من مكَّة.
ولم يكن إيذاء المشركين قاصرًا على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحدَه، بل لقد تعرَّض أكثر المؤمنين في مكَّة لألوانٍ من الفِتَن والمِحَن صبَّها عليهم المشركون صبًّا: فالكلمات البذيئة النابية، والألفاظ الوقحة الجافية، والصَّفع واللَّطم والرَّكل، والتقييد في السلاسل، والحبس في الظُّلمات، وتعرية أجساد المؤمنين وطرحها على رمال الصحراء المتوقِّدة، ووَضْع الأحجار القاتلة على الصدور، وفَقء الأعين، والكي بالحديد المحمَّى، والرَّجم بالحجارة، ومنع الطعام، وحبس الشَّراب عن السُّجَناء من المُجاهِدين في سبيل الله، ووضعهم للتعذيب في مُستَنقَعات المياه، والجلد بالسِّياط، والتَّفرِيق بين الأزواج... كلُّ ذلك وغيره ممَّا يندى له جَبِينُ الإنسانيَّة، ويظلُّ عارُه يشين فاعِلِيه إلى يوم القيامة، وإنَّ نتَن ريحه ليُزكِم الأنوف، لكنَّهم أقدَمُوا عليه مُفاخِرين: نافَسوا الذِّئاب فكانوا أشرس منها، وتبارَوا مع السِّباع في التوحُّش والضراوة فكانت السِّباع أكرَم وأطهَر، وأعفَّ وأنبَل؛ لأنها لا تترصَّد للمؤمنين، ولا تختار فرائسها إلاَّ منهم كما فعل مع المشركين.
كان العربي بقِيَمِه الموروثة يرى الاستِئساد على المرأة نَذالة وحطَّة، ويرى صيانتها والدفاع عنها شرفًا ومكرمة، لكنَّ الجاهليَّة المكيَّة حشدت أبطالها لحرب النِّساء والصِّبيان من الذين آمَنوا، واحتشدَتْ ذات يومٍ لمعركةٍ مع (سميَّة) أم عمار وزوجة ياسر، وخرَجت المرأة المؤمنة من المعركة ظافرة مُنتَصرة على كلِّ بطش قريش وإجرامها، وإنْ ظفرت منها قريش بجسدٍ من التراب، وإلى التراب قد عاد، نقول: إنَّ (سمية) قد انتصرت على قريش حين أرادت قريش أنْ تسلب هذه المرأة إيمانها، فما استطاعت - بكلِّ قوَّة كبرائها وصلف زُعَمائها - أنْ تَنال من يقين هذه المؤمنة المعتصمة بالله، وفي موكب غيبي باهر استَقبَلت الملائكة الكرام بالتجلية والترحاب روح سميَّة لتزفَّها إلى مكانها الموعود: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54 - 55].
واستمرَّت الجاهليَّة القرشيَّة في عتوِّها وصلَفِها وأثيم غُرورِها، حتى تواصَلتْ بصحيفةٍ ظالمة علَّقتها على جدران الكَعبة، وبها فرضت الحصار والمقاطعة والمَجاعة على المؤمنين في شِعب (حي) بني هاشم واستمرَّت هذه المقاطعة الآثِمة ثلاثة أعوام حسومًا، حتى أكَلت الأرضة صحيفةَ الظُّلم وهي معلَّقة.
كل هذا وغيره كثيرٌ كان يُحتِّم على الدَّعوة أنْ يكون لها (محضن) في غير جوِّ مكَّة الخانق القاتل.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|