لن يخزيك الله أبدا
لما نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: ((لقد خشيتُ على نفسي!))،فقالت له رضي الله عنها: "كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، وقال ابن حجر: "وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: وتؤدِّي الأمانة".
لما قال لها صلى الله عليه وسلم: ((لقد خشيتُ على نفسي!))؛ أي: مما حدث له في الغار وخارجه من أمر الوحي ورؤية الملَك (جبريل) عليه السلام، ردَّتْ عليه بلسان الواثقة: "كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا"؛ كلا لن يحزَن قلبُك، ما دام يحمل الخيرَ للناس، وما رأيتَه قد يكون فيه خيرٌ لك؛ فلن يخزيَك الله؛ أي: لن يفضحك ولن يهينك... ثمَّ عدَّدتْ له خصالًا فيه، لن يخزيَ الله مَن اتصف بها، وهاته الخصال هي:
1- تصل الرحم: أي تُحسن إلى أقاربك بالمال، أو بالخدمة، أو بالزيارة، أو السلام، وغير ذلك.
2- تصدُق الحديث: وقد كان معروفًا في الجاهلية بالصادق الأمين، وقال له قومه: "ما جرَّبنا عليك كذبًا قط".
3- تُؤَدِّي الأمانة: والأمانة كلُّ حقٍّ يلزم أداؤه وحفظه؛ كالودائع... وأداؤها إيصالها حيث شاء صاحبها أو إرجاعها إليه، وعندما لاحَقَ المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى المدينة مهاجرًا وترك عليَّ بن أبي طالب ليرُدَّ الأمانات إلى أهلها، ولم يَسْتبحْها بكفرهم ولا بظلمهم.
4- تَحمِل الكَلَّ: أي تتحمَّل مؤونة الكَلِّ، وهو الضعيف واليتيم وذو العيال، فتُنفِق عليه، وتقوم على حاجته.
5- تَكسِب المعدوم: أي تكسب المالَ المعدوم، فتحصل منه بعملك وعرق جبينك ما يَعجِز عنه غيرُك، وتبذُل من هذا المال للمحتاج أو المعدوم (المعدم).
6- تقري الضيف: والقِرى هو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب، وما يحتاجه حال وجوده عند مضيفه؛ أي: أنت تكرم الضيف.
7- تعين على نوائب الحق: والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة أو المصيبة، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأن النائبةَ قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، وقال ابن حجر في فتح الباري: "هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدَّم ولما لم يتقدَّم".
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قال العلماء رضي الله عنهم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذَكَرَت ضروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنَّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السلامة من مصارع السوء".
فمَن أراد أنْ يوفِّقه الله تعالى، وييسِّر له أسبابَ النجاح، ويفتح له قلوب الخَلْق، فليلزم هاته الخصال.
وهذا ما شهدت به حكيمة قريش أمُّ المؤمنين خديجة بنتُ خويلد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صَدَقَت فراستُها رضي الله عنها.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|