رحلة إلى غار ثور
في كتب السيرة النبوية الشريفة التي دونها ابن إسحاق، وهذبها ابن هشام، وكل كتب السيرة عالة على هذه، تتفق كلها على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتجه إلى غار ثور في هجرته إلى المدينة المنورة.
الطريق من مكة إلى المدينة شمال مكة، وغار ثور جنوبيها.
فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرف الاستراتيجية والتكتيك، في المصطلح العسكري اليوم؟.
تلك الخطة فوتت على مشركي قريش إدراكه في الطريق، وقد رصدوا مئة ناقة لمن يقتله، أو يدل على مكانه.
هذه قوة الأرض، فلننظر عناية الله في السماء.
غار ثور، في قمة جبل ثور، صعدت في طريق طويل لكنه خفيف الانحدار، وأمامي حبل طويل من الصاعدين، أكثرهم من الباكستان، وبيد كل منا قارورة ماء كبيرة.
على يمين الطريق، رأيت كهفاً، قلت: هذا غار ثور، ولكن الحبل يصعد، فقلت: إنه غير هذا، وتابعت صعودي بارتياح.
وبعد نصف الطريق، رأيت على يميني غاراً قلت: بل هذا غار ثور، والحبل يصعد، فتابعت الصعود.
في قمة الجبل الغار. وشعرت بالنسمات المنعشة جفوني، فداخلني شيء من حظ النفس.
قام خيالي برحلة إيمانية طوى فيها حجاب الزمان والمكان، واستحضر ذهني صورة المشركين يلوبون دائبين، ليجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيوفهم مصلتة ليضربوه بها ضرلة رجل واحد ليفرق دمه الزكي صلى الله عليه وسلم بين القبائل، كما أشار فرعون الأمة أبو جهل ليلة كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم عند باب داره، وهاهم أولاء الآن عند باب غاره وتذكرت قول البوصيري يرحمه الله في هذا الموقف:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطُم
فما كان مني إلا أن ذرفت الدموع غزاراً، يريد الكفار أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يريد حياتهم وعزتهم وكرامتهم.
نعم هذا هو الغار الذي التجأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم رحلة إيمانية في تاريخ الإيمان.
فتحة الغار تتجه إلى الغرب، ارتفاعها عن الأرض حوالي 60 سم، وعرضها حوالي 40. دخلت الغار، إذا به شبه نصف كرة، وقفت، فوصل السقف إلى كتفي، طولي 170 سم. بقي رأسي منحنياً وفي السقف فجوة أدخلت فيها رأسي، فوقفت مستوياً والتجويف أملس، والرأس يتحرك ضمنه بكل ارتياح جاءت لجنة آثار فحصت هذا التجويف الصخري، فقال التقرير: إنه تجويف طبيعي.
صحن الغار يتسع لثمانية رجال جلوساً، قطره حوالي مترين.
والفتحة التي أشارت إليها كتب السيرة في ظهر الغار، موجودة، ومكانها لم يتغير، فهي في جدار الغار الجنوبي عند الفتحة، فمن كان على سطح الغار، لا يرى إلا ما كان تحت الفتحة، طولها حوالي 35 سم وعرضها 15 سم، وأما داخل الغار، فإن النظر لا يمتد إليه.
أناقش الآن موضوع الثعبان المزعوم. جاء في كتب السيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائماً، ورأسه على ركبة الصديق فاستيقظ لما هطلت دموعه رضي الله عنه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال: ثعبان لدغني. فجاء الثعبان وسلم على النبي وانصرف فمسح النبي مكان اللدغ فبرئ.
إن الذي ركب هذه القصة كان من الغباء، بل من التخلف العقلي وذلك لما يلي.
الغار الذي دخلت إليه، هو الغار الذي تحدثت عنه الكتب.
1- صخرة لا شقوق فيها.
2- تقول هذه الأخبار: إن الصديق مزق من ثوبه قطعاً سد بها الثقوب إلا ثقباً واحداً.
3- إن هذا الثقب، سده أبو بكر بقدمه الحافية.
أقول: لم أرَ في الصخر شقوقاً.
وكيف يسد الصديق الثقوب ويترك واحداً منها؟
ولماذا يضع قدمه حافية على المكان الذي يتوقع منه خروج حشرة سامة؟ لماذا لم يلبس النعل؟
والثعبان؟ إذا أراد أن يسلم على النبي، لا يرضيه إلا قتل صاحبه؟ ألا يمكن أن يدغدغ القدم بلسانه؟
في محاضرة لي في صالون اللواء الدكتور أنور عشقي في الرياض يحفظه الله، قلت هذا الكلام، فقال أحد المشائخ: إن قصة الثعبان وردت في كثير من كتب السيرة. فقال الدكتور أنور: نعم، هذا صحيح، ولكنها لم ترد في البخاري.
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به. مع احترامنا لمن أورد خبر الثعبان، كان عليه ألا يكون مقلداً، إذا ورد خبر في الإسرائيليات، وما أكثرها في أخبارنا، علينا أن نتثبت من الخبر قبل نقله، وهذا هو منهج التحقيق الذي يجب أن يسود في دراساتنا الأكاديمية في جامعاتنا.
خرجت من الغار، وقيل لنا: إن الحرم الشريف كان يرى من هنا، ولكن البنيان حجبه.
تجولت في أطراف الفسحة المنبسطة، وكأنني كنت مسافراً إلى الأيام التي شهدت هذه المسيرة الإيمانية قبل قبل أكثر من 1400 عام، وعدت الآن إلى العصر الحديث، وكأنني أمتطي صهوة طائرة الهليوكبتر.
فالله يا تلك الرحلة، كم تهيج في نفس المسلم من ذكريات!
المصدر: كتاب "أجمل مصايف المملكة العربية السعودية ومعالمها الدينية والتاريخية"
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|