الخلال النبوية (5)
أمانة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين؛ اصطفى من عباده أنبياء ومرسلين، وأمرهم بتبليغ دينه الحنيف، وهداية الناس إلى صراطه المستقيم، نحمده على دينه وهدايته، ونشكره على رعايته وكفايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال ﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، فمن أدَّاها كان من المفلحين، ومن ضيعها كان من الخاسرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه، واستمسكوا بدينه واثبتوا عليه؛ فقد وصاكم الخليلان إبراهيمُ ومحمدٌ عليهما الصلاة والسلام بذلك ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132] وجاءكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بنداء الله تعالى لكم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها الناس:
من فضل الله تعالى علينا، ورحمته بنا، وإحسانه إلينا أن اختصنا بأفضل رسله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم فأرسله إلينا نبيا ورسولاً وهاديًا ومعلمًا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه فتخلق بأخلاق القرآن، وحاز صلى الله عليه وسلم أفضل الخلال، واتصف بأحسن الأوصاف، وبلغ الغاية في الكمال البشري؛ فسبق بأخلاقه من كانوا قبله، ولم يبلغه أحد ممن جاء بعده؛ حتى كُتبت الكتب الطوال في وصف أخلاقه وسجاياه.. كتبها عرب وعجم، ومسلمون وكفار من المؤرخين والمستشرقين وغيرهم بُهروا بما رأوا من جميل خلاله وصفاته.
وشهد له بذلك إبَّان بعثته أعداؤه قبل أتباعه:
منهم: النضر بن الحارث - وهو من ألد أعداء الدعوة - فقام في قريش في أول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أشلتم له نَبْلَه بعد، لقد كان محمد فيكم غلاما حَدَثا: أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! ولا والله ما هو بكاهن، وقد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! ولا والله ما هو بشاعر، ولقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها... وقلتم: مجنون! ولا والله ما هو مجنون، ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا في شأنكم؛ فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.اهـ
فإذا كان هذا وصفُ ألدِّ أعدائه ومكذبيه، ومحاربي دعوته فكيف بوصفِ أتباعه له؟! فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الجديدان.
لقد كانت الأمانة من أَخَصِّ الأوصاف التي اتصف بها منذ نشأته صلى الله عليه وسلم حتى لَصِقت به قبل بعثته، فنعتته قريش بالأمين، واشتُهِر بذلك عند أهل مكة فحكَّموه في خصوماتهم، واستودعوه أماناتهم، فما حُفظت عنه غدرة، ولا عُرفت له في أمانته زلة.
وفي الجاهلية جدَّدت قريشٌ بناء البيت حتى بلغوا الحجر الأسود فاختلفوا فيه كلُ بطن منهم يريد أن يحظى بشرف وضعه دون غيرهم (فقال بَطْنٌ من قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وقال آخَرُونَ نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالَوا: (اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَماً، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ، فَقَالُوا له، فَوَضَعَهُ في ثَوْبٍ ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ معه فَوَضَعَهُ هو صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.
واستأمنته خديجة رضي الله عنها على أموالها فاتجر بها، وأربحها ضِعْفَ ما كان يُربحُهَا غيرَه، فما كتمها شيئا، ولا أخفاه عنها وكان ذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه خديجة تعرض عليه الزواج، فَقَبِل وكانت هي زوجتَه الأولى، وأولَ من صدقه واتبعه من الناس.
ولما بعثه الله تعالى إلى الناس رسولا عاداه أهل مكة، وآذوه وعذبوا أصحابه، وكانت ودائعهم عنده فما خانهم في شيء منها، ولا هدَّدهم بها، بل حفظها لهم مع عداوتهم له.
ولما خرج مهاجرًا إلى المدينة فرارا بدينه من قريش وأذاها خلَّف وراءَه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ليردَّ الودائع إلى أهلها فأقام علي رضي الله عنه بمكة بعد مخرج رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أياما حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلُ على كثرتها، وأن بيته عليه الصلاة والسلام كان مستودعَ ودائعهم.
وكان من أوائلِ ما دعا الناسَ إليه إبَّان بعثته صلى الله عليه وسلم: أداءُ الأمانة، ودليل ذلك أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قابل النجاشي رحمه الله تعالى، وسأله النجاشي عن دينهم، أجابه جعفر رضي الله عنه فقال له: (أَيُّهَا الْمَلِكُ، كنا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ونسيء الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا على ذلك حتى بَعَثَ الله إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلى الله لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ ما كنا نَحْنُ نعبد وَآبَاؤُنَا من دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ...)؛ رواه أحمد وصححه ابن خزيمة.
فشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمينًا، وأنه يدعوهم إلى أداء الأمانة، بل شهد له أبو سفيان رضي الله عنه بذلك قبل أن يسلم لما سأله عظيم الروم هرقل عن ذلك ثم قال هرقلٌ: (وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كان يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ والصدق وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قال: وَهَذِهِ صِفَةُ النبي)؛ رواه البخاري.
وكما لم يَسْلَم صلى الله عليه وسلم من طعن الطاعنين في دعوته وصدقه، فكذبوه ورَدُّوا ما دعاهم إليه فإنه لم يسلم من طعن بعضهم في أمانته، وتخوينهم له مع أن الناس قد شهدوا له بالأمانة بمن فيهم أعداؤه صلى الله عليه وسلم، ولكن أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الضعيفة يفترون الكذب، ويرمون غيرهم بأدوائهم.
ولم يستثنوا من ذلك الأمينُ في الأرض على دين الله تعالى ووحيه محمد صلى الله عليه وسلم فرماه بالخيانة بعض أهل الحقد والجهل؛ كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت: (كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْدَيْنِ قِطْرِيَّيْنِ وكان إذا جَلَسَ فَعَرِقَ فِيهِمَا ثَقُلَا عليه وَقَدِمَ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بَزٌّ من الشام فقلت: لو أَرْسَلْتَ إليه فَاشْتَرَيْتَ منه ثَوْبَيْنِ إلى الْمَيْسَرَةِ فَأَرْسَلَ إليه فقال: قد عَلِمْتُ ما يُرِيدُ مُحَمَّدٌ، إنما يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِمَالِي أو يَذْهَبَ بِهِمَا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ قد عَلِمَ أَنِّي من أَتْقَاهُمْ لله وَآدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ)؛ رواه النسائي.
وذات مرة جاءه عليه الصلاة والسلام مال من اليمن فقسمه في بعض كبار نجد ليتألفهم على الإسلام فغضب بعض من لم يُعطوا (فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ناتئ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فقال: اتَّقِ اللَّهَ يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ إن عَصَيْتُهُ؟! أَيَأْمَنُنِي على أَهْلِ الأرض ولا تَأْمَنُونِي؟!) وفي رواية فقالصلى الله عليه وسلم: (ألا تَأْمَنُونِي وأنا أَمِينُ من في السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً) متفق عليه.
وما ضرَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تخوينُ الخائنين، ولا تكذيب المكذبين، ولا استهزاء المستهزئين، بل أعلى الله تعالى في العالمين ذكره، وأظهر دينه، وكثرَّ أتباعه، وعصم أمتَه من الإجماع على ضلالة ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33].
أيها المسلمون:
كانت أعظمَ أمانة تحملها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمانةُ دين الله تعالى وحمله وتبليغه والدعوة إليه والقتال عليه والهجرة لأجله؛ فأدَّى رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة العظيمة كما كُلِّف بها، وبلغها كما تحملَّها، وهانحن بعد ما يزيد على ألفٍ وأربعِ مئةٍ وأربعين سنة نتظلل فيء أمانته التي أداها، وننعم بشريعتها وأحكامها، ونفخر بالانتساب إليها، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيا عن أمته، والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله تعالى.
لقد حمَّله الله تعالى أمانة هذا الدين وثقله وتبعاته ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5] وأمره ببلاغه للناس ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67] فكان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم كفوا لما حُمِّل، فبلغه كما أُمِر، وصدع به جهارا أمام الناس حتى بَلَغَ القاصي والداني.
ساومته قريش على التخلي عن هذه الأمانة العظيمة فما تخلى عن أدائها، ثم ساوموه على الإخلال بها حين دعوه ليعبد آلهتهم سنة ويعبدوا الله تعالى سنة، فما وافقهم ولا أخلَّ بما حُمِّل من الأمانة، وأرادوا من عمه أبي طالب أن يكفه عن دعوته أو يخليَ بينهم وبين ابن أخيه، فكلمه عمه نا فقال له: يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فلا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، فقال:يَا عَمَّاهُ، والله لَو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أنْ أَتْرُكَ هذا الأمْرُ مَا تَرَكْتُه حتَّى يُظْهِرَهُ الله أو أهْلَكَ فِيه. ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل إليَّ يا ابن أخي، فأقبل، فقال: اذهب فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
وفي مقام آخر: قال صلى الله عليه وسلم: ((مَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، والله إني لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعثني الله له حتى يُظْهِرَهُ الله له أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ)) يعني: رقبته الشريفة. رواه أحمد.
وبسبب هذه الأمانة العظيمة التي تحملها أوذي في الله تعالى، وحُصِر أتباعُه وذووه في الشعب ثلاث سنوات جاعوا فيها جوعا شديدا، وهلك منهم من هلك.
وبسبب هذه الأمانة خنقه بعض المشركين حتى كاد أن يموت، ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو يصلي.
وبسببها تآمر الأعداء على قتله غير مرة، وأُخرجوه صلى الله عليه وسلم من بلده، وعذبوا أصحابه، وقُتلوا منهم من قتلوا رضي الله عنهم وأرضاهم.
وبسببها حمل صلى الله عليه وسلم السلاح، ودافع عن أمانته حتى شُجَّ رأسُه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه؛ فما لانت عريكته، ولا وهنت عزيمته، وما زادته المحن والبلايا إلا إصرارا على أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، حتى أكمل الله تعالى به الدين، وأتم النعمة، وانتشر الإسلام.
وفي أكثر جمع في حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وأعظم نسكٍ في الحج، وأفضل يوم وقف صلى الله عليه وسلم في عرفة حاجا حجة الوداع يخطب في الجموع العظيمة التي حجت معه، ويسألهم فيقول: (أَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس اللهم اشْهَدْ اللهم اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة رضي الله عنه: (ألا إنَّ ربي عز وجل داعِيَّ وإنه سائلي: هل بَلَّغْتَ عِبَادَي؟ وأنا قَائِلٌ له: رَبِّ قد بَلَّغْتُهُمْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ) رواه أحمد.
ولا نقول إلا كما قال الصحابة رضي الله عنهم حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا حُمِّل من الأمانة، فنقول: إنا نُشْهِدُ الله تعالى وملائكته عليهم السلام والصالحين من عباده أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وما فرَّط في شيء من أمانته بل أداها كاملة كما حملها، اللهم فاشهد.
أيها الإخوة:
ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نكون أُمناء فيما حُمِّلنا من أمانات، أعظمها وأجلها هذا الدين العظيم الذي ندين به، ويريد الكفار والمنافقون والمرتدون إخراجنا منه إلى أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة.
ومن أداء الأمانة فيه: الثباتُ عليه مهما كانت التبعات؛ فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم تحمل في سبيله ألوان الأذى والعذاب.
ومن أداء الأمانة فيه: الدعوة إليه، مع الصبر على الأذى فيه في زمن ضعف فيه دعاة الحق، وقوي دعاة الباطل، واستأسد المفسدون في الأرض على الناس.
ومن أداء الأمانة فيه: الذبُّ عنه وعن مبلغه إلينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد اعتدى الكفار والمنافقون عليه وعلى دينه وشريعته، يريدون طمسها وإخراج الناس منها، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قوام هذا الدين، وسبب بقائه في الأرض.
فكونوا يا عباد الله كما كان أسلافكم أمناء على دين الله تعالى تؤدنه كما بَلَغَكم عنهم، وتردون عنه اعتداءات الكفار والمنافقين، وتفخرون به ولو تنقصه أعداؤكم؛ فإن الدعوة إليه والفخر به من أحسن القول: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [فصِّلت: 33].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|