الخلال النبوية (10)
الحمد لله الغفور الشكور، العفوِّ الصبور؛ ما أحد أصبر على أذًى سَمِعه منه؛ يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقُهم، نحمده على عَطائه، ونشكره على نعمائه، ونسأله الصبرَ في بلائه؛ فإنَّه - سبحانه - يمنحُ المعونة على قَدْر المؤونة، ويُنزل الصبرَ على قَدْر البَلاء، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ ﴿ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83].
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وخِيرته من خَلْقه، خطَب - صلَّى الله عليه وسلَّم - الناسَ فقال: ((إنَّ الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله))، فبكى أبو بكرٍ، قال أبو سعيد: فعجِبْنا لبُكائه أنْ يُخْبِرَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن عبدٍ خُيِّرَ، فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمَنا - صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فأُوصي نفسي وإيَّاكم - عباد الله - بتقوى الله - تعالى - فإنَّ التقوى مع الصبر من صفات ذوي العَزْم؛ ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]، وقال لقمان لابنه في موعظته له: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
أيُّها الناس، الصبر من أعلى مَقامات اليقين، وبه مع التقوى تُنال الإمامة في الدِّين، وقد جمَّل الله - تعالى - به المرسَلِين، وأمَرَ به خاتم النبيِّين؛ ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48].
وأوَّل سورةٍ نزلتْ كان الأمر بالصبر حاضرًا فيها؛ ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7].
وآيات سواها كثيرة في كتاب الله - تعالى.
والأخْذ بعزائم الشريعة - أمرًا ونَهْيًا - لا يُطِيقه إلا الصابرون، ومواجهة شرِّ الأقدار بالتسليم والرضا لا يَقْدِر عليه إلاَّ أهلُ الصبر، وكَدر الدنيا وكُرَبُها وهمومُها تحتاج إلى صبرٍ؛ ولذا أُمِر المؤمنون أنْ يستَعِينوا بالصبر على ذلك كلِّه؛ لينالوا معيَّة الله - تعالى - وعونه ومدده؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].
وأنْ يتواصوا به فيما بينهم؛ ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3].
وأمَّا الجزاءُ فعظيم جدًّا؛ ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الفرقان: 75]، ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 111]، ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12].
ويَكفي في جزائهم أنَّه بلا حساب؛ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وقَصَّ الله - تعالى - أخبارَ صبرِ الأنبياء - عليهم السلام - للتأسِّي بهم في ذلك؛ ففي صبر أيوب على مَرضه الشديد الطويل قال الله - تعالى - فيه: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]، وفي صبر إسماعيل وهو يُقَدَّم للذَّبْح؛ ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
وفي صبر يعقوب على فَقْدِ ولده قال: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18]، وفي صبر يوسف على ما ناله من البلاء العظيم؛ ﴿ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
وقصَّ الله - تعالى - ذلك على نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليثبتَ ويصبرَ؛ ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34].
﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].
فحقَّق - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعلى درجات الصبر، وتحمَّل في سبيل الله - تعالى - أنواعَ الأذى، وكلُّ ما قصَّ الله - تعالى - علينا من أنواع الابتلاءات التي ابتُلِيتْ بها الرُّسُل، فإنَّ نبيَّنا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ابْتُلِي بجميعها، وبما هو أشدُّ منها؛ فصَبَر صبرًا جميلاً، لا جزع فيه ولا سخطً ولا شكاية.
لقد صبَر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكلُّ هذه الطوائف الثلاث حاولتْ قتْلَه غير مرَّة، وصبرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الابتلاءات العظيمة التي ابتُلِي بها في نفسه وأهْله وولده وقرابته، وصبرَ على شدَّة الفاقة، وإلحاح الحاجة، وكان ابتلاؤه منذ نشْأَته - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد لازمتْه الابتلاءات منذ صِغَره؛ فوُلِد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفُجِع بوالدته طِفلاً لم يتجاوز ستَّ سنوات، فلم ينسَها قطُّ، والطفل لا يَنسى فَقْدَ أُمِّه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "زار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبْرَ أُمِّه، فبكى وأبكى مَن حوله"؛ رواه مسلم.
ثم فُجِع بجدِّه وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمُّه الفقير أبو طالب فضمَّه إلى بَنِيه، فأعانه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو طفلٌ برعْي غنمِ أهْل مكةَ على قراريطَ، هذا اليتيم الفقير أرادَ الله - تعالى - أنْ يكونَ خاتَمَ المرسلين، وخيَّره بأنْ يكون مَلَكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار الثاني.
ولما بُعِث بالرسالة وآذاه المكذِّبون، فُجِع بموت المدافع عنه عمِّه أبي طالب، وبموت المواسية له زوجه خديجة - رضي الله عنها - في عامٍ واحدٍ سُمِّي: "عام الحُزن".
لقد فُجِع - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قَرابته وأهْل بيته كأشدِّ ما يُفجع أحدٌ في أهْله، فتتابَع موتُهم عليه منذ صِغره - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورُزِق سبعةً من الولد: القاسم، وعبدالله، وإبراهيم، ورُقَيَّة، وأم كلثوم، وزينب، وفاطمة، ماتوا كلُّهم تباعًا أمامَه، إلاَّ فاطمة فماتتْ بعده، ودخل - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ابنه إبراهيم وهو في النَّزع، فأخذه، فقبَّله وشَمَّه - وإبراهيم يجود بنفسه - فجعلتْ عينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "وأنت يا رسول الله!"، فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتْبعها بأخرى، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضِي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))؛ رواه الشيخان.
وصبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قلَّة ذات اليد، وعانَى شَظَف العيش، ووجَدَ ألَمَ الحِرمان، وأحسَّ بقَرْص الجوع، أخبر عنه بذلك ألْصقُ الناس به، فقالتْ عائشة - رضي الله عنها -: "إنَّ كنَّا لننظرُ إلى الهلال ثلاثة أهِلَّة في شهرين، وما أُوقِدتْ في أبيات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نارٌ"، وقالتْ: "ما أكل آلُ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرٌ"؛ رواهما البخاري.
وقالتْ: "ما شَبِع آلُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ قَدِم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاثَ ليالٍ تِباعًا، حتى قُبِض"؛ متفق عليه، وقالتْ: "وما شَبِع من خبز وزيتٍ في يوم واحد مرَّتين"؛ رواه مسلم.
وقال خادِمُه أنس - رضي الله عنه -: "ما أعلم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى رغيفًا مُرقَّقًا حتى لَحِق بالله، ولا رأى شاة سَمِيطًا بعينه قطُّ - أي: شاة مشويَّة"؛ رواه البخاري.
وأخبر ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "كان يَبِيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهْله لا يجدون عشاءً، قال: وكان عامَّة خُبزِهم خُبزَ الشَّعير"؛ رواه أحمد.
وقال النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: "لقد رأيتُ نبيَّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطْنَه"؛ رواه مسلم، وفي روايةٍ لأحمد: "لقد رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجدُ دَقَلاً يملأ به بطنَه".
مع أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ الطعام الطيِّب والشراب الطيِّب، لكنَّه لا يجده من قِلَّة ذات اليد؛ فقد ثبتَ أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ الحَلْواء والعَسل، ويحب الذراع من اللحْم، ويتتبَّع الدُّبَّاء، وهي التي تسمَّى اليقطين أو القرع.
وذات مرَّة أتتْه ابنته فاطمة - رضي الله عنها - بكِسرة فقال: ((ما هذه؟)) قالتْ: قرصٌ خبزتُه فلم تطبْ نفسي حتى آتيك بهذه الكِسرة، قال: ((أمَا إنَّه أوَّلُ طعامٍ دخَلَ فمَ أبيك منذ ثلاثة أيَّام))؛ رواه الطبراني.
وكان مرضُه أشدَّ من مرض غيره، وحُمَّاه أحرَّ من حُمَّى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "دخلتُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يُوعَك وعْكًا شديدًا، فمسَسْتُه بيدي، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: ((أجَلْ، إني أُوعَكُ كما يُوعَك رجلان منكم))، فقلتُ: ذلك أنَّ لك أجرين"؛ مُتفق عليه.
وسَمَّته اليهود في "خَيْبَر"، وسرى السمُّ في جسده الشريف، فعانى منه صداعًا شديدًا، وألَمًا فظيعًا وهو صابرٌ على ذلك، لا يزيد إذا اشتدَّ به الألَمُ على قوله: ((وا رأساه))، ومكَثَ وجَعُه أربعَ سنوات؛ حتى قطَعَ عِرْقَ قلبِه فمات - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما روتْ عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجدُ ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أَبْهَري من ذلك السمِّ"؛ رواه البخاري.
فعمل - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأمر الله - تعالى - له، وصبر كصبر أُولِي العَزْم من الرُّسل، حتى لَقِي الله - تعالى - وهو صابرٌ على أذى الناس له، راضٍ بما قضاه الله - تعالى - وقَدَّره عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، صلاةً وسلامًا تامَّين دائمين ما تعاقَب الليل والنهار!
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأوْلَى، ونشكُره على ما هدى وأسْدَى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
أيُّها المسلمون، رغم ما يعيشه كثيرٌ من الناس من رَغَد العيش، وتتابُع النِّعم عليهم، وما رُزِقوا من وسائل الراحة والرفاهية، إلا أنَّ القلوب قَلِقَة، والنفوس ضيِّقة، والبركة تكاد تكون منزوعة من أوقات الناس وأعمالهم، وأعمارهم وأموالهم، ويزعجهم واقعُهم بتفصيلاته وتعقيداته، ويخافون المستقبل المجهول، ولا يدرون ما خُبِّئ لهم من الأقدار.
كلُّ أولئك كان سببًا في أمراض القلق والاكتئاب التي قد تُودِي بأصحابها إلى الهلاك أو الجنون، ولا وقاية من ذلك كلِّه إلا بالصبر الذي أرشَدَ الله - تعالى - إليه، والصبر يُكْتَسب كما تُكْتَسب سائرُ الأخلاق، فمَن أراد النجاة، فليَتروَّض على الصبر، وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومَن يتصبَّر، يُصبِّره الله))؛ متفق عليه.
إنَّ مَن عاش اليُتْمَ عليه أنْ يتذكَّر يُتْمَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصبرَه، ومَن تألَّم لفراق أحبَّته وقرابته، فليتذكَّر فراقَ أحِبَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - له، وصبره على ذلك؛ فلقد فارَقَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمُّه وجَدُّه وعمُّه، وزوجه وبنوه الثلاثة وثلاثة من بناته، ولم يبقَ له إلاَّ واحدة.
ومَن عالج مرضًا مزمنًا فليتذكَّر مرضَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والسُّمَّ الذي كان يسري في جَسده حتى قتَلَه.
ومَن عانَى قِلَّة ذات اليد واهتَمَّ لديون ركِبَتْه؛ فليتذكَّر جوعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين كانتْ تمرُّ عليه ثلاث ليالٍ طاويًا، وليعْلَمْ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - مات ودِرْعُه مرهونة في شيءٍ من شعير.
ومَن أُوذِي في الله - تعالى - لدعوته، وصدعه بالحقِّ وأمره بالمعروف ونَهْيه عن المنكر، فليتذكَّر أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أُوذِي بما هو أشدُّ وأكثر، فقابَلَ الأذى بالحِلم والصَّفح والصبر؛ حتى أظهر الله - تعالى - دينَه، وأعلى شأنه، ورفَعَ ذِكْرَه، ودَحَر أعداءه، وما نال - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك إلا بالصبر والتقوى.
إنَّ مقومات العيش الكريم ثلاث، جمعها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا))؛ رواه الترمذي، وقال: حَسنٌ غريب.
وكلُّ هذه الثلاثة افتَقدَها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كثيرٍ من أوقات حَياته؛ فكان لا يأمنُ غَدْرَ المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تُصِيبه حتى فتَكَ به السُّمُّ، وكان يجوع كثيرًا من قِلَّة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلاَّ أنفقَه ولم يدَّخِرْ لنفسه منه شيئًا، فمَن تذكَّر اجتماع ذلك على رسول الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو خير خَلْق الله - تعالى - أجمعين، هانتْ مصائبُه ولو كانت عظيمة، وتأسَّى به في الصبر والرضا.
والابتلاء لا بُدَّ منه للتمحيص والتطهير، ولا ينجو في أمواج الابتلاء ومحارق الفتن إلا مَن تسلَّح بالتقوى واستعان بالصبر والصلاة؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
وصلُّوا وسلِّموا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|