وظائف اليوم والليلة (خطبة)
الحمد لله الملك القدوس السلام، الذي أعطى كل شيء خلقه على الكمال وعلى التمام، رفع السماء بلا عمد، والأرض وضعها للأنام، فيها جناتٌ والنخل ذات الأكمام، وجبال وظلال، ولباس وشراب، وطعام وأنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله خير الأنام، صلى الله عليه وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان؛ أما بعد:
فاتقوا الله تعالى معشر المؤمنين، واعتصموا به، واستهدوه، واستطعموه، واستكسوه، واسألوه، وارغبوا إليه؛ فلا خير إلا من عنده، ولا توفيق إلا من لدنه، واغتنموا حياتكم قبل موتكم، وصحتكم قبل سقمكم، واعلموا أن في كل يوم وليلة أعمالًا صالحة، بعضها واجب وبعضها مستحب، هي درجات في مراتب الجنات، فمستقلٌّ ومستكثر من فضل رب البريات، قد جعلها الله وظائف لعمر المؤمن، يزيد بها أجره ويقربه بها من مرضاته وجنته.
المومن الموفَّق يبدأ يومه بصلاة الفجر جماعة مع المسلمين في بيت الله تعالى، فحينما تسمع الأذان انهض مباشرة، واحذر من نزغات الشيطان التي تدعوك للكسل عن الصلاة؛ فمن صفات المنافقين: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]، فإن بادرت للمسجد قبل الأذان، فأنت حينئذٍ مِن خير مَن أنت منهم.
اذكر ربك من حين انتباهك من نومك، وأسبغ وضوءك، وامشِ إلى المسجد بسكينة ووقار، ولك بكل خطوة درجة وتكفير خطيئة؛ كما في الصحيحين.
وعند دخولك المسجد قدَّم رجلك اليمنى وقل: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)).
وهناك سنة راتبة بين الأذان والإقامة؛ وهي ركعتان خفيفتان، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما عليها))؛ [رواه البخاري]، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُها حضرًا ولا سفرًا، ويقول: ((صلوها ولو طردتكم الخيل))، وإذا كان هذا فضل سنة الفجر، فما بالكم بصلاة الفجر؟! ومن السُّنة أن تقرأ في الركعة الأولى سورة الكافرون، وفي الثانية "قل هو الله أحد".
ومن فاتته سنة الفجر قبل الصلاة، فيُشرع أن تُقضى بعد ارتفاع الشمس، وإن صلاها بعد صلاة الفجر، فلا بأس.
واعلم - أخي المسلم - أن لصلاة الفجر شأنًا عظيمًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى البَرْدَين دخل الجنة))؛ [رواه البخاري]، والبردان هما الفجر والعصر، ومنها أن ((من صلى الفجر فهو في ذمة الله))؛ [رواه مسلم].
ومن أدلة أهمية صلاة الفجر أن الصحابة كانوا يرَون أن التخلف عنها من علامات النفاق؛ كما قال ابن مسعود: "ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".
أخي المسلم: ثم بعد الفجر يُستحب لك أن تبدأ صباحك بأذكار الصباح الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم التي تجعل قلبك يعيش في رياض الإيمان، ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فالذكر للروح كالماء للسمك؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، كمثل الحي والميت))؛ [رواه البخاري].
وإذا صليت الفجر، فاذكر أذكار الصلاة، ثم أتْبِعْها بأذكار الصباح، ولا تقُمْ حتى ترتفع الشمس؛ ففيها أجر عظيم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة))؛ [أخرجه الترمذي، وحسنه، ووافقه ابن باز والألباني].
ويا عبدالله، لا بد أن يكون لك ورد يومي من القرآن لا يقل عن جزء قدر استطاعتك، فلا تهجر كلام ربك فتدخل في شكاية رسولك صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]، فليكن لك ورد لا يقطعه إلا الموت، فالإبل ترِد الماء لتحيا، وكذلك القلب يرد القرآن ليحيا، فأحْيِه بالقرآن ولا تقسِّه بهجره، فأبعدُ القلوب عن الله القلب القاسي.
والموفَّق - يا عباد الرحمن - يعتني بصلاة الضحى؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام))، ويبدأ وقتها بعد طلوع الشمس بنحوِ ربع ساعة حتى قبيل الظهر بربع ساعة، وأقلها ركعتان، ولا حدَّ لأكثرها.
فإذا أُذِّن لصلاة الظهر فيُستحب لك صلاة أربع ركعات بسَلامَيْنِ قبلها؛ لأنه وقت تُفتح فيه أبواب السماء، ثم صلِّ وكعتين بعد صلاة الظهر؛ كما جاء في الحديث: ((من صلى ثنتي عشرة ركعة، بنى له الله بيتًا في الجنة))، وهي أربع قبل الظهر، واثنتان بعده، واثنتان بعد المغرب في البيت، واثنتان بعد العشاء في البيت، واثنتان قبل صلاة الفجر.
يا عبدالله، بادر وبكِّر للصلاة؛ فإنك لا تزال في صلاة ما كنت في انتظارها، فإذا صليت، فإن الملائكة تستغفر لك ما دمت في مُصلَّاك ما لم تنصرف أو تُحْدِثْ؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فلا تستعجل الخروج من المسجد بعد الصلوات، واعمُر وقتك بالذكر فأنت في رياض الجنة.
فإذا دخل وقت العصر، استُحب لك صلاة أربع ركعات بسلامين قبل الفريضة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعًا)).
وصلاة العصر جدُّ عظيمة؛ قال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238]، والمراد بالوسطى: العصر؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة العصر، فقد حبِط عمله))؛ [رواه البخاري].
فإذا صليت العصر وذكرت أذكارها، فلا تقم حتى تذكر أذكار المساء، فإنك إن قمت أنستك مشاغل الدنيا غنائم الآخرة، والمؤمن حازم فطِن؛ ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17].
وتحرُم الصلاة بعد العصر حتى غروب الشمس مما ليس له سبب، وأما الصلوات التي لها سبب فتجوز في أوقات النهي؛ كصلاة الجنازة، والاستخارة، والطواف، والوضوء، وتحية المسجد، ونحو ذلك، فيجوز فعل كل ذلك حتى في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب، ولكن إذا اقترب وقت الغروب أو الشروق أو الزوال، فلا تصلِّ حتى ذوات الأسباب؛ وذلك لورود التشديد في النهي عن الصلاة فيها؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ((ثلاث ساعات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصليَ فيهن أو ندفن فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)).
فإذا غربت الشمس استحبت ركعتان قبل صلاتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء))؛ [رواه البخاري]، وعن أنس رضي الله عنه قال: ((لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب))؛ [رواه البخاري].
فإذا صليت المغرب فصلِّ ركعتين والأفضل أن تصليها في بيتك؛ قال صلى الله عليه وسلم فيها: ((هذه صلاة البيوت))؛ [رواه مسلم].
وصلاة العشاء معظَّمة في الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة، فكأنما قام الليل كله))؛ [رواه أبو داود بسند صحيح]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيمها لأتَوهما ولو حبوًا))؛ [رواه البخاري]، وبعد الفراغ من الصلاة يستحب لك صلاة ركعتين، وهي من السنن الرواتب.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم ارزقنا حسن عبادتك آناء الليل وأطراف النهار.
أقول هذا القول، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية الحمد لله...
عباد الرحمن: إن من أحب الأعمال إلى الله الصلاةَ في جوف الليل، فصلاة الليل هي أفضل الصلوات بعد الفريضة، وصلاة الليل هي زاد المؤمن وراحته وجنته، ومن أسباب الأمن يوم القيامة قيام الليل؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 25 - 27]، وتدبَّر - رحمك الله - قول الله عز وجل عن المؤمنين: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17]، فإن في الجنة - يا عباد الله - نعيمًا ليس من جنس نعيم الدنيا، بل هو جديد بكل تفاصيله وأسمائه، وليس في الدنيا ما يعبر عنه به، حتى ولو على سبيل التقريب والتشبيه؛ ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ اقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]))، فلم يخطر ذلك النعيم على قلب أصلًا، نسأل الله الكريم من فضله؛ قال بعض السلف: "أخفوا لله العمل، فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قدموا عليه، لأقرَّ تلك الأعين عنده".
وقال الله عن أهل الجنة: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد))؛ [رواه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، عشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس))؛ [رواه الحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني].
ولا تنسَ لا تنسَ لا تنسَ أن تذكر الله وتدعوه في الثلث الأخير من الليل؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟))، وفي رواية: ((حتى ينفجر الصبح))؛ [متفق عليه]، فالغنائم أيها النائم، ومن أراد الخير فليعمل بأسبابه، ورأسها الاستعانة بالله تعالى وتقواه؛ وذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله، حتى أصبح - أي لم يتهجد - فقال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه))؛ [متفق عليه]، وهذا فيمن فاته قيام الليل، فكيف بمن فاتته فريضة الفجر؟! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
ولما اشتكوا للحَسَنِ ضعفهم عن التهجد، قال: "قيدتكم خطاياكم"، وللسلف مع قيام الليل أخبار شريفة.
عباد الله: إن من توفيق الله لعبده أن يهديَه لعمل صالح لا ينقطع بموته، فلا يزال يصعد درجات الجنة حتى بعد رحيله عن دنيا العمل، بكلمة علمها، أو نفس أسعدها، أو جوعة أشبعها، أو علة داواها، أو بئر حفرها، أو جلد أدفأه، أو ظلام بدَّده، أو طريق عبَّده، أو نفع سَبَله، أو مسجد بناه، ونحو ذلك من مراضي رب العالمين.
وعليك ببناء علمك بالطلب فهو بداية الوصول، والتلاوة فهي عطر الروح، والتدبر فهو مفتاح العقل، والحفظ فهو كنز العلم، والمراجعة فهي تأكيد الفائدة، والمدارسة فهي لقاح المعرفة، والعلم الذي لا يُدْرس يَنْدَرِس؛ وقال إبراهيم بن عبدالواحد موصيًا الضياء المقدسي لما أراد الرحلة للعلم: "أكْثِرْ من قراءة القرآن ولا تتركه؛ فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ، قال الضياء: فرأيت ذلك وجربته كثيرًا، فكنت إذا قرأت كثيرًا تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي".
وعليك بالدعاء؛ فهو زاد المؤمن وقوته وسلاحه، وما خاب من دعا، وما ندم من ابتهل، وما خسر من تضرع، ومن أعظم أسباب إجابة الدعاء: اليقين بربك، وحسن ظنك به، والثقة بلطفه، والطمأنينة لوجوده، وإحاطته، وعلمه، وقربه، ورحمته، ومن وصايا طاووس بن كيسان: "إياك أن تطلب حوائجك ممن أغلق دونك أبوابه، وجعل دونك حجابه، وعليك بمن أمرك أن تسأله، ووعدك الإجابة"؛ ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].
ولتكن مستمتعًا دومًا بتطهير روحك برياض العبادة وبساتين الذكر، وغَسْل قلبك بالسجود والخضوع والضراعة، وعينك بالتفكر والرقائق والدموع، وصدرك بمحبة الخير للناس والشفقة عليهم والإحسان إليهم، وبطنك بكثرة الصيام والصدقة وأكل الحلال، وواهًا لمن جمعها.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|