تفسير آية: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ... ﴾
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 6 - 10].
سبب النُّزول:
أن رجلًا - هو هلال بن أمية، أو عويمر العجلاني - قذف امرأته بشريك بن سحماء، فأنزل الله هذه الآيات، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزوجينِ بالملاعنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءتْ به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين؛ فهو لشريك بن السحماء))، فجاءتْ به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ما مضى مِن كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأنٌ)).
قال بعضُ أهل العلم: نزلت هذه الآيات بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.
والغَرَض الذي سِيقَتْ له: شرعية اللعان لدَفْع الحرج عن الزوج إن وجد امرأته تزني؛ إذ قد لا يتيسر له إحضار أربعة شهداء، مع أنه لا يصبر على إمساكها بعد ذلك.
ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذَكَر قذف المحصنات عامة، ذَكَر قذف الزوجات خاصة؛ لرفع الحرَج عن الأزواج بإسقاط الحدِّ عن القاذف منهم إذا لاعَن.
وظاهرُ قوله: ﴿ يَرْمُونَ ﴾ يعم كل رمي يعد قذفًا؛ كقوله: زنيتِ، أو يا زانية، أو رأيتُها تزني، أو قال: هذا الولد ليس مني، وإلى هذا ذهب الجمهور أخذًا بهذا الظاهر.
وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن الملاعنة لا تجب بمطلق القذف، وإنما تجب إذا صرح بأنه رآها تزني، أو نفى الحمل، مع دعوى الاستبراء.
وقد احتج مالك على ذلك بأنه جاء في حديث الرجل الذي قذف زوجته بالزنا وكان سببًا للنزول: (فرأيت بعيني وسمعت بأذني)، فقد نص على أن الملاعنة كانت في الرؤية، فلا تتعداها.
وهذا مردود؛ إذ قد جاء في لفظ الحديث (وسمعت بأذني)، مع أن مالكًا لم يشترط السماع.
وعند مالك إذا لم يذكر الزوج الرؤية يجب عليه الحد.
كما أن قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ عامٌّ في كل رامٍ مكلَّف، وفي كل زوجة مكلفة، سواء كانت محصنة أم غير محصنة، وإلى هذا ذهب الجمهور؛ عملًا بهذا الظاهر؛ ولأن اللعان يمينٌ فكل مَن صَحَّتْ يمينه صحَّ لعانه.
وذهب أبو حنيفة وأحمد - في إحدى الروايتين عنه - إلى أنه لا يصح اللعان إلا بين زوجين حرَّينِ مسلمين؛ بدليل ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعة ليس بينهم لِعان، ليس بين الحر والأَمَة لعان، وليس بين الحرَّة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان))؛ ولأن اللعان عند أبي حنيفة شهادةٌ، فلا يصح إلا من أهل الشهادة.
والمختار مذهب الجمهور؛ لعموم قولِه: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾.
وحديثُ: ((أربعة ليس بينهم لعان...)) إلخ، لا يصح، فقد ضعَّفه الدارقطني.
وقول الحنفية: إن أيمان اللعان شهادة مردود بأنهم لا يوجبون رجم المرأة إن نكَلت عن اللعان، ولو كانت أيمان اللعان شهادةً للزمهم القول برجم المرأة إن نكلت عن اللعان بعد أيمان الزوج.
وقوله تعالى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ﴾؛ أي: ولم يوجد لديهم بينة، هي أربعة رجال عدول يشهدون معهم على صدق دعواهم، وقد أطلق الشهداء ولم يبين عدتهم؛ لأن عددهم معلوم من قوله في الآية السابقة: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾، كما أن قوله: ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ﴾ يشعر بعدتهم.
و(أَنْفُسُهُمْ) بالرفع على أنه بدل من شهداء، ويجوز أن يكون نعتًا له، على أن (إلا) بمعنى غير.
وهذا القيد - أعني قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ﴾ - لا مفهوم له عند الجمهور، بل يلاعن ولو كان عنده شهود؛ لأن هذا القيد خرج على سبب، فإن الذي نزلت بسببه الآية كان فاقد البينة، وشرط العمل بالمفهوم ألا يخرج القيد على سبب، كما أن نفي الولد لا بد فيه من اللعان.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يلاعن إن قدر على الشهود للقيد به في الآية.
والشهادة في قوله: ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ﴾ يحتمل أن تكون بمعنى البينة؛ أي: فبينة أحدهم لتبرير مقالته ودفع حد القذف عن ظهره.
ويحتمل أن تكون بمعنى الحلف؛ من قولك: أشهد بكذا؛ أي: أحلف.
قالوا: ومنه قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... ﴾ [المنافقون: 1]، ثم قال بعدها: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً... ﴾ [المنافقون: 2].
ومعنى ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾؛ أي: يحلف الزوج الرامي أربع مرات، يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين؛ يعني: فيما رماها به من الزنا، وله أن يزيد: وأن هذا الولد ليس مني، ثم يقول: عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين؛ يعني: فيما رماها به من الزنا، ويجب عليه أن يأتي بضمير المتكلم بدل ضمير الغَيبة في قوله: ﴿ عَلَيْهِ ﴾، وفي قوله: ﴿ كَانَ ﴾.
وينبغي للحاكم إذا فرغ الزوج من الرابعة أن يذكره ويخوفه، ويقول له: اتقِ الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه - يعني: الخامسة - هي الموجبة التي توجب عليك البعد من رحمة الله، ويُكرِّر الحاكم: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ وينبغي أن تكون المرأة جالسة تسمع هذا كله.
والمراد باللعنة: الطرد والإبعاد من رحمة الله، وقد سمي هذا العمل بـ: اللعان؛ لأن فيه ذكر اللعنة.
ومعنى ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾؛ أي: ويدفع عنها حد الزنا أن تحلف أربع مرات تقول في كل مرة: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين؛ تعني: فيما رماها به من الزنا، ثم تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ويجب عليها أن تأتي بضمير المتكلم بدل ضمير الغَيبة في قولها: ﴿ عَلَيْهَا ﴾، والمراد بغضب الله: سخطه ومقته.
وينبغي للإمام أن يوقفها بعد الرابعة، ويقول لها: اتَّقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه - يعني: الخامسة - هي الموجبة؛ يعني لسخط الله عليها.
وإذا اتهم الرجل زوجته بالزنا ثم نكل عن اللعان يدخل عند الجمهور في عموم قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾، فيضرب حد القذف؛ لأن اللعان جعل رخصة له وتوسعة عليه، فإذا نكل عن اللعان، فقد أضاع على نفسه هذا الحق، وإن كانت زوجته ممن لا يُحد قاذفها عُزِّر.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يضرب حد القذف إذا نكل؛ لأن آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته، فليس على الزوج حد القذف لزوجته عنده إلا إذا أكذب نفسه، فيجب حبس الزوج حتى يلاعن أو يكذب نفسه، فإذا أكذب نفسه حُد للقذف.
ولو لاعَنَ الزوج ثم نكلت الزوجة عن اللعان، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تُحدُّ للزِّنا؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾ إلى آخر الآية، وليس المراد عذاب الآخرة قطعًا، بل المراد عذاب الدنيا، وليست (أل) في العذاب للجنس ولا للاستغراق؛ إذ لعانها لا يدرأ عنها جميع أنواع العذاب، كما أنه لا يراد أن يدرأ عنها بعض العذاب دون بعض، فتعين أن تكون (أل) في العذاب للعهد، والعذاب المعهود هو حد الزنا المذكور في قوله: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وذهب الحنفية إلى أنه لا حد عليها؛ لأن حد الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار.
والمختارُ قولُ الجمهور؛ عملًا بظاهر قوله: ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾؛ ولأنها لو كانت بريئة من التهمة ما نكلت عن اللعان، وإذا تم اللعان بين الزوجين سقط حد القذف عن الزوج وحد الزنا عن الزوجة، ويلحق الولد بأمه إن نفاه الزوج، غير أنه لا يجوز لأحد أن يعير الولد بشيء من ذلك؛ لأنه لم يثبت زنا أمه.
ويُفرَّق بين الزوجين، خلافًا لعثمان البتي وبعض فقهاء البصرة.
وقد اختلف في كيفية التفريق بينهما:
فقال الشافعي: إذا تم لعان الزوج وقعت الفرقة بينهما، وإن لم تلاعن المرأة، بدعوى أنها فرقة حاصلة بسبب القول فيستقل بها قول الزوج وحده؛ كالطلاق.
وذهب مالك وأحمد - في إحدى الروايتين - إلى أن الفرقة لا تقع إلا بلعانهما جميعًا، فإن تم لعانهما حصلت الفرقة ولا تحتاج إلى تفريق الحاكم؛ بحجة أن الفرقة لو حصلت بمجرد لعان الزوج وحده فإن المرأة تلاعن حينئذٍ وهي أجنبية، مع أن اللعان إنما يكون بين الزوجين.
وذهب أبو حنيفة وأحمد - في الرواية الأخرى - إلى أنه لا بد بعد تمام لعانهما من تفريق الحاكم بينهما، والدليل ما رُوي عن ابن عباس من قوله في حديث المتلاعنين: (ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإذا فرَّق بينهما، فلا نفقة للمرأة ولا سكنى؛ لأنه تفريق بلا طلاق أو موت، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمقذوفة بشريك بين السحماء نفقةً ولا سكنى.
وهذا التفريق لتحريم المرأة على الرجل، وهي حرمة مؤبدة عند الجمهور، فلا يجوز للرجل أن يتزوجها بعد ذلك أبدًا، وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج إذا أكذب نفسه فله أن يتزوجها، والأظهر قول الجمهور.
هذا؛ وإذا صرح الزوج في قذفه للزوجة باسم الزاني، فقد اختلف في وجوب الحد على الرامي:
فذهب أحمد إلى أنه لا يحد مطلقًا إذا لاعن.
وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه يلاعن للزوجة، ويحد للأجنبي.
وذهب الشافعي إلى أنه إن قال في لعانه: أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته مِن زناها بفلان، وصرح باسم الزاني في اللعان نفسه، فإنه يسقط الحد عنه، أما إذا لم يصرح باسمه في اللعان نفسه، فإنه يحد؛ يعني: إذا صرح به في غير اللعان.
والمختار القول الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدَّ الذي قذف زوجته بشريك بن سحماء، مع أنه سماه باسمه الصريح.
وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ إلى آخر الآية، تعليل لمشروعية اللعان، وجواب الشرط محذوف، تقديره: لأحل العذاب بالكاذب من المتلاعنين، ولما شرع لكم هذا التيسير.
الأحكام:
1- يجب أن يأتي كل واحد من المتلاعنين بالألفاظ التي ذكرها الله في حقه عند اللعان.
2- وجوب الترتيب في ألفاظ اللعان.
3- لا يشرع اللعان إذا اتهمت المرأة زوجها بالزنا.
4- سقوط حد القذف عن الزوج إذا لاعن.
5- سقوط الحد عن الزوجة إذا لاعنت حتى ولو جاء الولد شبيهًا بمن قُذفت به.
6- قَبول التوبة مِن أهل الكبائر.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|