تيسير معرفة العدالة وشروطها عند المحدثين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
فهذا تيسير بسيط مختصر لمفهوم العدالة وشروطها عند المحدِّثين، أردت به التسهيل والتيسير، والله الموفَّق والمستعان؛ فأقول:
تعريف العدالة:
أ - تعريف العدالة لغة:
العدالة مصدر عَدُل بالضم، يٌقال عدل عدالة وعدولة، فهو عَدْلٌ؛ أي: رضًا ومُقنع في الشهادة، وأما العدل الذي ضد الجور، فهو مصدر قولك: عدل في الأمر فهو عادل، وتعديل الشيء تقويمه، يُقال: عدَّله تعديلًا فاعتدل؛ أي: قومته فاستقام، وكل مثقَّف معتدل، وتعديل الشاهد: نسبته إلى العدالة[1].
ب - تعريف العدالة اصطلاحًا:
عرَّفها العلماء بتعريفات كثيرة أذكر منها ما يلي:
1) عرَّفها الإمام الخطيب البغدادي[2] نقلًا عن القاضي أبي بكر بن الطيب[3] بقوله: "العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامته من الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطِل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها"[4].
2) وعرَّفها الإمام أبو محمد بن حزم[5] بقوله: "العدالة هي التزام العدل، والعدل هو الالتزام بالفرائض، واجتناب المحارم، والضبط لِما روى وأخبر به فقط"[6].
3) وعرفها ابن الصلاح[7] بقوله: "أجمع جماهير أهل الحديث والفقه على أنه يُشترَط فيمن يُحتَجُّ بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا لِما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، سالمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة"[8].
4) وعرفها الحافظ ابن حجر[9] بأنها: "مَلَكَةٌ تحمل على ملازمة التقوى والمروءة"[10].
نلاحظ أن هذه التعاريف كلها تدل على معنًى واحد؛ وهو: أن العدالة هي الاستقامة في الدين بفعل الواجبات، وترك المحرمات، كما نلاحظ أن جميع التعاريف لم تدخل الضبط والحفظ كشرط في العدالة إلا في تعريف ابن حزم رحمه الله؛ ومن هنا نفرق بين نوعين من العدالة:
الأول: العدالة الدينية؛ والمقصود بها الاستقامة في الدين.
والثاني: العدالة في الرواية؛ والمقصود بها: حفظ الراوي وضبطه لِما يرويه.
والنوع الأول هو المراد عند إطلاق المحدِّثين أو الفقهاء.
كما نلاحظ أن هذه التعاريف قد تعرَّضت لذكر شروط العدالة؛ وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والسلام من أسباب الفسق، وخوارم المروءة.
أولًا: الإسلام:
لا تُقبَل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعًا، وقد حكى الإجماع على ذلك الغزاليُّ في المستصفى[11]، والرازي في المحصول، وغيرهما.
ثانيًا: البلوغ:
هذا الشرط يتعلق بحالتين من حالات الراوي: حالة السماع والتحمُّل، ثم حالة الأداء والرواية، ولقد تنازع العلماء والمحدِّثون قديمًا في ذلك؛ فمنهم من اشترط سنًّا معينة للتحمُّل، ومنهم من صحَّح سماع الصغير، وقد ذكر هذا الخلافَ الخطيبُ البغدادي في الكفاية، فقال: قلَّ مَن كان يكتب الحديث - على ما بلغنا - في عصر التابعين وقريبًا منه إلا من جاوز حدَّ البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم، وسؤالهم، وقيل: إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد، وقال قوم: الحد في السماع خمس عشرة سنة، وقال غيرهم: ثلاث عشرة، وقال جمهور العلماء: يصح لمن سنه دون ذلك، وهذا هو عندنا الصواب[12].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطًا في التحمل، وأشار المصنف بهذا إلى الاختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، رواه الخطيب في الكفاية عن عبدالله بن أحمد وغيره أن يحيى قال: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة؛ لكون ابن عمر رُدَّ يوم أُحُدٍ إذ لم يبلغها، فبلغ ذلك أحمد، فقال: إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال، ثم أورد الخطيبُ أشياءَ مما حفِظها جمعٌ من الصحابة ومن بعدهم في الصغر، وحدَّثوا بها بعد ذلك وقُبِلت عنهم، وهذا هو المعتمد"[13]، ومن المحدِّثين من قيَّده بخمس سنين؛ قال ابن الصلاح رحمه الله: "والتحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث من المتأخرين، والذي ينبغي في ذلك أن يُعتبَر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعًا عن حال من لا يعقل، فهمًا للخطاب، وردًّا للجواب، ونحو ذلك، صحَّحنا سماعه، وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك لم نُصحِّح سماعه، وإن كان ابن خمس، بل ابن خمسين"[14].
ثالثًا: العقل:
وهو من شروط العدالة المجمَع عليها، حكى الإجماع على ذلك الخطيب البغدادي وغيره من العلماء[15]؛ فقال رحمه الله: "وأما الأداء بالرواية فلا يكون صحيحًا يلزم العمل به إلا بعد البلوغ، ويجب أيضًا أن يكون الراوي في وقت أدائه عاقلًا مميِّزًا، والذي يدل على وجوب كونه بالغًا عاقلًا، ما أخبرنا القاضي أبو عمر والقاسم بن جعفر قال: ثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب عن خالد عن أبي الضحى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رُفِعَ القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقِل))، ولأن حال الراوي إذا كان طفلًا أو مجنونًا دون حال الفاسق من المسلمين.
وذلك أن الفاسق يخاف ويرجو، ويجتنب ذنوبًا، ويعتمد قربات، وكثير من الفساق يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعمُّد له ذنب كبير، وجرم غير مغفور، فإذا كان خبر الفاسق الذي هذه حاله غير مقبول، فخبر الطفل والمجنون أولى بذلك، والأمة مع هذا مجتمعة على ما ذكرناه لا نعرف بينها خلاف فيه"[16].
رابعًا: السلامة من أسباب الفسق:
الفسق هو ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة[17].
أما الكذب، فالتائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق، هذا الصنف من الرواة قبِلَ المحدِّثون رواياتهم، إلا خلافًا لبعض الأصوليين كالسمعاني والصيرفي[18].
خامسًا: السلامة من خوارم المروءة:
عُرِّفت المروءة بتعاريف كثيرة، جُلُّها يرجع إلى العادات الجارية بين الناس؛ فقال بعضهم: المروءة كمال المرء، كما أن الرجولة كمال الرجل، وقال بعضهم: المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال الجميلة المستحقة للمدح، شرعًا وعقلًا وعُرفًا.
وقال آخرون: المروءة صون النفس عن الأدناس، ورفعُها عما يشين عند الناس، وقيل: سيرة المرء بسيرة أمثاله في زمانه، ومن أحسن تعاريفها هي آداب نفسانية، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات[19]، واشتراط العلماء للمروءة سببه: أن الإخلال بها إما يكون لخَبَلٍ في العقل، أو لنقصان في الدين، أو لقلة حياء، وكل ذلك رافع للثقة بقوله[20]، وقد جرى نزاع كبير واعتراض على من أدخل المروءة في شروط العدالة المتفق عليها[21].
ومما يجدر التنبيه إليه هنا؛ وهو أن اشتراط المروءة والقدح في الراوي الذي يتصف بما هو من خوارمها، إنما هو موكول للعالِم الناقد مع إضافة أسباب أخرى قد فصَّلها الإمام الخطيب البغدادي حيث قال[22]: "وقد قال الكثير من الناس: يجب أن يكون المحدِّث والشاهد مجتنبَين لكثير من المباحات؛ نحو التبذُّل والجلوس للتنزُّه في الطرقات، والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول على قوارع الطرقات، والبول قائمًا، والانبساط إلى الخلق في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتُّفِقَ على أنه ناقص القدر والمروءة، ورأوا أن فعل هذه الأمور يُسقِط العدالة ويُوجِب ردَّ الشهادة.
والذي عندنا في هذا الباب ردُّ خبر فاعلي المباحات إلى العالِم، والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه؛ فإن غلب على ظنِّه من أفعال مرتكب المباح المسقِط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك، والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته، بل يرى إعظام ذلك وتحريمه، والتنزه عنه قبل خبره، وإن ضعُفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه عندها، ترك العمل بخبره ورد شهادته"[23].
وقد ساق الخطيب البغدادي نصوصًا عن الأئمة المتقدمين تدل على هذا؛ منها قول الإمام مالك رحمه الله: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخُذْ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن سفيهٍ معلن بالسَّفَهِ وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذَّاب يكذب في أحاديث الناس إذ جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من صاحب هوًى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث"[24].
تم بحمد الله ومنِّه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|