له وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد:
فلقد وقف كثير من الدارسين والمحللين والباحثين في عظماء الرجال عند سيرة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم العطرة منذ مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل 570م، إلى وفاته صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ/ 632م،وكانت حياته، قبل البعثة وبعدها، حافلة بالخير والبركة، وكان مقبولًا من الجميع؛ لأن الجميع لم يُظهر له، قبل بعثته، كيدًا، أو يُكنُّ له أي لون من ألوان العداء، حتى دعته قريش، قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بالأمين.
صدَّق به من صدَّق به من المسلمين، في أول يوم من بعثته صلى الله عليه وسلم، بدءًا بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - إلى أبي بكر الصديق، إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ثم بقية الصحابة، الذين كانوا يتعلمون ويتربَّون على يديه في مكة المكرمة، حينما كان ينبني فيها الإيمان،وكذَّب به من كذب من مشركي قريش والعرب الذين سمعوا به.
بدأت المكايد منذ البعثة المحمدية (سنة 610م) تأخذ أساليب شتى، وهي منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى اليوم لم تتمكن من إطفاء النور الذي جاء به الرسول الأمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
تظل مسيرة التصديق مستمرة إلى اليوم، وإلى أن يشاء الله تعالى، كما تظل مسيرة التكذيب مستمرة، مصحوبة، أحيانًا، بالكيد، بأساليب مختلفة، تتناسب مع العصر الذي توجه فيه وإليه،ويتمثل التصديق في عودة المسلمين أنفسهم إلى الحق، كما يتمثل في استمرار دخول غير المسلمين في الإسلام، على مختلف المستويات للأفراد، من حيث خلفياتهم ونِحَلهم ومللهم.
كما يتمثل التكذيب في الاستمرار في التشكيك في سيرته عليه الصلاة والسلام وفي الطعن في حياته الخاصة، التي لم تكن تحيط بها الأسرار أو التكتمات، وفي زوجاته أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن [1] - وفي إدارته لشؤون الدولة الإسلامية، وفي التشكيك بالكتاب، الذي أنزل عليه وحيًا من الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، ثم يتمثل التكذيب في التشكيك بسنته صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله وتقريراته، المحفوظة كحفظ القرآن الكريم[2]، وذلك من حيث ثبوتها، ومن حيث صحتها، ومن حيث كونها مصدرًا من مصادر التشريع [3]، ثم التشكيك في صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين - لا سيما رواة الحديث المكثرين؛ كأبي هريرة عبدالرحمن بن صخر، وعائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، وأبي ذر الغفاري، وأبي الدرداء رضي الله عنه، ثم التشكيك في سيرة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم التشكيك بعلماء المسلمين، الذين اشتغلوا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبسيرته؛ من تجميع وتدوين، وتصنيف وتبويب، وغيرها، كالبخاري ومسلم وابن ماجه وابن حنبل والنسائي وأبي داود ومالك بن أنس وغيرهم من أصحاب الصحاح والمسانيد وعلماء الجرح والتعديل - رحمهم الله أجمعين[4].
يأتي ذلك كله، في زماننا الحاضر، على أيدي رهط من المستشرقين والمنصرين، ثم الإعلاميين الغربيين، ومن في حُكمهم من الشرقيين، ومن تأثر بهم من بعض علماء المسلمين، الذين أرادوا من سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام أن تكون مؤيدًا لتوجهات فكرية حادثة على الفكر الإسلامي، أو وافدة، كتيار الاشتراكية مثلًا، أو أنهم أعجبوا بالطرح الاستشراقي وتأثروا به[5]، والأمثلة على هذا التوجه كثيرة، لا يخلو المنشور العربي من وقفات نقدية لها[6].
جهود المستشرقين والمنصِّرين في موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى عناية بالرصد أولًا، ثم بالردود على الشبهات (بلغة علمية رصينة، ثم إيصال هذه الردود إلى مراكز البحث العلمي في الغرب، والعناية بترجمة هذه الردود إلى اللغات المنتشرة)،كما تنص التوصية الحادية والعشرون لندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، التي عقدت في رحاب مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة في المدة من 15 - 17/ 3/ 1425هـ الموافق 4 - 6/ 5/ 2004م، وشارك فيها أكثر من تسعة وسبعين باحثًا، من بينهم باحثون في الاستشراق، والرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته عليه الصلاة والسلام جرى الاستشهاد ببعضهم في هذه المراجعات.
طبيعة البحث في السيرة:
مع استمرار الكيد للمصطفى صلى الله عليه وسلم على مر السنين والقرون تظل سيرته - عليه الصلاة والسلام - مليئة بالعبر والحكم والأمثلة، التي تجسد القدوة الصالحة: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وهي لا تزال موضع بحث ودراسة، على مستوى الدراسات العلمية في الجامعات والكليات والمعاهد العليا،وعلى مستوى الدراسات الثقافية والفكرية، وعلى مستوى الأفراد الذين يسهمون في النهضة الثقافية التي يعيشها المسلمون اليوم بفضل من الله تعالى.
تظل سيرته - عليه الصلاة والسلام - منهلًا عذبًا للاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم، فهي لا تدرس كما تدرس سير العظماء والأبطال ورجال التاريخ، بل إن دراستها تدخل في وجه من وجوه العبادة، التي تجعل من سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته مثلًا يحتذى، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى، إنما كان ينطق عن وحي يوحى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]؛ ولذا تنفرد هذه السيرة العطرة بأنها أكثر من مجرد أحداث تمر على الأفراد، وتسجل لبيان عظمتهم في التاريخ، وتغفل بعض خصوصياتهم، بل إنها لسيرة شاملة في الأمور العامة والخاصة، حتى ليقال: إنه كان صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف يفعل كذا، وفي ذاك الموقف يفعل كذا، ليفعل المسلمون كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم ودنياهم، مهما تعددت الوسائل واختلفت الطرق، وتنوعت الأساليب، التي يقتضيها الزمان والمكان[7].
لذلك حفظت هذه السيرة العطرة بالتدوين منذ مرويات عروة بن الزبير بن العوام عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، ثم تدوين ابن إسحاق، فابن هشام، ثم تستمر التدوينات عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، مما يستدعي قيام قاعدة معلومات تحصر فيها المدونات، المطبوعة والمخطوطة، وباللغات المختلفة،هذا ما دعت إليه التوصية الثامنة عشرة من توصيات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، السالف ذكرها.
مهما وقف المسلمون مع سيرة سيد الأولين والآخرين رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فلن يُشبعوه بحثًا ودرسًا، وحِكمًا مستقاة، وعبرًا مستفادة، في الوقت الذي أنصفه المنصفون من غير المسلمين، وسطروا إعجابهم به، سواء اعترفوا به نبيًّا ورسولًا أم لم يعترفوا به،ولا ينتظر المسلم من غير المسلم أن يعترف بنبوة سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وإلا لأمكن أن يكون مسلمًا، وهو لا يريد أن يكون كذلك، وإن ظهرت تسمية نبي ورسول الإسلام في بعض الكتابات، ولكن المسلم ينتظر من الآخرين ألا يسيئوا إلى نبي من أنبياء الله تعالى ورسله كلهم، ناهيك عن أن تكون هذه الإساءة لخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
لا ينتظر المسلم، كذلك، أن تسقط أفعال أتباع رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم عليه هو، وعلى ما جاء به من هدي، فما جاء به - عليه الصلاة والسلام - من هدي هو الذي يسقط على أفعال أتباعه، فما وافق الهدي كان تابعًا له، وما خالفه كان خارجًا عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد))[8]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد))[9].
فما يقوم به الناس المسلمون على مر التاريخ الإسلامي ليس حجه على الإسلام، وعلى نبي الإسلام، ولكن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حجة على ما يقوم به المسلمون، وبالتالي فإن اتهام سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بما يتهم به بعض أتباعه، على مر العصور، لا يستند على منطلق منطقي يقبله العقل، وتقره الممارسات الحضارية.
لقد كانت هذه الوقفة حول سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأن المتنفذين من رجال الدين في الملل الأخرى قد تعرضوا بالهجوم على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم المحسوبون بين قومهم، ممن يتوقع منهم أن يعوا التاريخ، ويحكموا عليه بقدر من الإنصاف الذي يرشدون إليه، لا سيما أنهم يخرجون أسبوعيًّا على الفضائيات، خاصةً صباح كل أحد، عدا عن المواقف الوعظية، التي يجتمع لها الناس في الملاعب الرياضية والأماكن العامة، التي تستوعب عشرات الآلاف، يقفون أمامهم يدعون إلى الفضيلة، وإلى السماحة، وإلى تبني تعاليم المسيح عيسى ابن مريم - عليه وعلى والدته صلاة الله وسلامه - الذي بشر بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.