إنَّ القارئ لكُتُب السِّيرة يعلم أنَّ الأنصارَ قدَّموا كلَّ ما يستطيعون لإخوانهم المهاجرين ومن ذلك مؤاخاتهم لهم في الأهل والمال، ولقد استمرَّ عطاؤعم طيلةَ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الخيرُ وعَمَّ في أواخرها، وشهد الله سبحانه بكرمهم وإيثارهم قال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[1]
ولقد أسهم القادرون من المهاجرين- مِن أمثال: أبي بكرٍ وعُمَر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف- وبَذَلُوا، وقدَّموا الشيءَ الكثيرَ، مما هو مذْكورٌ في كُتُب السيرة، بل قد أسهم كلُّ قادرٍ حتى ولو كان الشيء الذي يُقَدِّمُه قليلاً؛ فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما يَحُضُّ على الصدقة- كما يقول ابنُ مسعود-: ((ينطلق أحدُنا إلى السُّوق، فيحامل فيُصيب المدَّ...))[2]، ثم يأتي ليتبَرَّع به[3].
وعليه، فقد قدَّم كلُّ قادر على العطاء ما يستطيع، ولم يكن الضيقُ ناتجًا عن تقصيرٍ أو كسلٍ أو بُخْلٍ، وإنما هي ظروفٌ اقتَضَتْها طبيعةُ هذه المرحلة مِن حركة الدعوة[4]، ومِن ذلك ما أخرجه محمد بن سعد، عن
مَخْرَمة بن سليمان الوالبي، أخبرني
الأَعْرَج، عن
أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع، قلتُ لأبي هُرَيْرَة: وكيف ذلك الجوعُ؟ قال: «لكثرة مَنْ يَغْشاهُ وأضيافه، وقومٌ يَلْزَمُونه لذلك، فلا يأكل طعامًا أبدًا إلا ومعه أصحابُه، وأهلُ الحاجة يتتبَّعُون من المسجد، فلما فتح الله خَيْبَرَ اتسع الناسُ بعضَ الاتِّساع، وفي الأمر بعدُ ضيقٌ، والمعاشُ شديدٌ فهي بلادُ ظلَفٍ لا زرع فيها، إنما طعامُ أهلِها التمرُ، وعلى ذلك أقاموا، قال مَخْرَمَةُ بنُ سليمانَ: وكانت جَفْنَةُ[5] سعدٍ تَدُور على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ يوم نزل المدينة في الهجرة إلى يوم تُوُفِّي، وغيرُ سعد بن عُبادة من الأنصار يَفْعَلُونَ ذلك، فكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا يتواسون، ولكن الحقوق تَكْثُر، والقُدَّامُ للمدينة يَكْثُرون، والبلادُ ضيقةٌ، ليس فيها مَعاشٌ إنما تخرج ثَمرتُهم من ماءٍ ثمرٍ يحمِلُه الرجالُ على أكتافهم أو على الإبلُ،، وربما أصاب نَخْلَهم القُشامُ[6]، فيُذهِبُ ثَمرتَهُم تلك السنة»[7].
فإنَّ هذا النصَّ لَيَصِفُ أسبابَ الشِّدَّة، ويؤكِّد عدم التقصير في البذْل والعطاء، ومن الأسباب ما يلي:
1- أن المدينةَ بلد زراعيٌّ، وزراعتُه تقوم على النَّخيل بالدرجة الأولى، وإن المَزَارِعَ تُسقى بالماء الذي يَحْمِلُه الرجال على أكتافهم أو تَحْمِلُه الإبل، وهو أمرٌ صعبٌ؛ فليس هناك مِن أنهار تَسقي المَزارع كما في البلاد الزراعية الأخرى، وإذا أصاب القُشامُ الثمرةَ فقد ذهب موسمُ ذلك العام، والميدانُ الزِّراعيُّ مجالُه مَحدودٌ، والأيدي العاملةُ التي يستهلكها قليلةٌ، خاصة وأن الزراعة الأولى هي النَّخيل، والعمل فيها مواسمُ محدودة[8].
2- كثرة الوافدين والقادمين؛ مما ينشأ عنه كثرةُ الحقوق والالْتِزامات، وكلُّ قادمٍ يحتاج إلى أمرين تامَّيْن: السكنِ له ولأسرتِه، وتأمينِ مَوْرِد رزقٍ له، ولم يكنْ هذا بالأمرِ بالسَّهْل، وكمثالٍ لكثْرة أعداد القادمين وعدم قُدرة المدينة على استيعابهم ومثال ذلك قصةُ وفْدِ مُزَيْنَةَ؛ فقد كان أول مَن وفَد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن مُضَر أربعمائة مِن مُزَيْنَةَ، وذاك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الهجرةَ في دارهم: «أنتم مهاجرون؛ حيثُ كنتم فارجعوا إلى أموالكم»[9]، فقد ردَّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم وهو أحْوَجُ ما يكون لهم؛ مِن أجْلِ الدفاع عن المدينة، وما ذاك إلا لأنه رأى عدم القدرة الاستيعابيَّة للمدينة على تقبُّل تلك الأعداد الكبيرة دفعةً واحدةً للظُّروف الاقتِصاديَّة القائمة[10].
3- أنَّ المهاجرين- وغالبيَّتُهم مِن قريش- لا يُتقنون غير التجارة عملاً، ولم يكن فيهم مَن يُحْسِنُ الصنعات المختلفة؛ وذلك لاحتقار العربي يومئذٍ للصنعة، وأنه يرى فيها عملَ الأرِقَّاء والعبيد، وهذا يجعل من القادمين عاطلين عن العمل لفترة من الزمن على الأقل، ريثما يتعرَّفون على أوضاع البلد، ومع هذا فالمدينة ليست البلد الكبير الذي يستوعب ذلك العدد مِن التجَّار[11].
4- أن المدينةَ عاشتْ في أكثر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم في حالة حرب، والحربُ تُنهك الاقتصاد، وتُذْهِبُ بالثروات، وفي كثيرٍ مِن الأحيان كان يتوفر وجودُ مُقاتلين ولا يوجد المال الذي يُجَهِّزهم للوصول إلى أرض المعركة؛ كما قال تعالى: ﴿
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [12].
5- كان للمدينةِ مع مكةَ حركةٌ تجارية قبل الهجرة وتوقفتْ هذه الحركةُ بعد الهجرة، مما أثَّرَ بِدَوْرِه على النشاط الاقتصاديِّ[13].
6- الهِجرةُ مِن مكة إلى المدينة بحدِّ ذاتها، وترْكُ المهاجرين لأموالهم، أو غالب أموالهم في مكةَ، إما لعدم استِطاعَة حَمْلها كلها، أو لمساومة كفار قريش على أموالهم ليخلوا سبيلهم للهجرة، ومِن ذلك الحديثُ الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموالَ والأولادَ وخرجوا إليكم؛ فقالوا: أموالنا بيننا قطائع؛ قال رسول الله: أوغير ذلك؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العلم، فتكفونهم وتقاسمونهم التمر؛ قالوا: نعم»[14].