مع الصابرين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
عباد الله، في هذه الدقائق الغالية سنقف وإياكم مع الصبر والصابرين، فإن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجُند لا يُهزم، وحِصن حصين لا يُهدم، وهو مطيَّة لا يضل راكبها، فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه.
الصبر: هو حبس النفس عن الجزع واللسان عن الشكوى والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما.
الصبر: هو خلق من أخلاق النفس به تسكن النفس عند البلاء والمصيبة.
الصبر: لازمٌ إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء.
الصبر زاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غُربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير، والرجل والمرأة، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجؤون وبه ينطلقون.
إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصَّهم بخصائص لم تكن لغيرهم، وذكر الصبر في نحو تسعين موضعًا من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.
يكفي الصابرين شرفًا أنهم في معيَّة الله، فظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة؛ قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].
وجعل الله سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «بالصبر واليقين؛ تُنال الإمامة في الدين».
هذا الصبر علق القرآن الفلاح عليه، فقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اصبروا على طاعة ربكم، وعلى ما ينزل بكم من ضر وبلاء، وخافوا الله في جميع أحوالكم; رجاء أن تفوزوا برضاه في الدنيا والآخرة.
وإذا كانت الأعمال لها أجرٌ معلوم محدود فإن الصبر أجره لا حد له، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
قال سليمان بن القاسم: «كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر لأجل هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، قال: كالماء المنهمر.
وجعل الله للصابرين أمورًا ثلاثة لم يجعلها لغيرهم، كل منها خيرٌ مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون وهي الصلاة منه والرحمة والهداية؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»؛ [رواه البخاري].
وجعل الصبر عونًا وعدة وأمر بالاستعانة به، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، فمن لا صبر له؛ لا عون له.
يا أيها المؤمنون، اطلبوا العون من الله في كل أموركم: بالصبر على النوائب والمصائب، وترك المعاصي والذنوب، والصبر على الطاعات والقربات، والصلاة التي تطمئن بها النفس، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
وعلَّق النصر على الصبر والتقوى، فقال: ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125]، وجعل سبحانه الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره، فقال: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].
عباد الله، ما أحوج أمتنا في هذه الأيام وفي هذه الفتن إلى التأمل في هذه الآيات والعودة إلى الله عودة صادقة، ولقد أخبر الله جل وعلا أن ملائكته تُسلِّم في الجنة على الصابرين قائلين لهم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]، سلامٌ عليكم بما صبرتم على الطاعات، وصبرتم عن الشهوات، وصبرتم على البلاء، سلامٌ عليكم فنعم عقبى الدار.
وجعل الله الصبر على المصائب من عزم الأمور، وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد، فقال تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
ولمن صبر على الأذى، وقابل الإساءة بالعفو والصفح والسَّتر، إن ذلك من عزائم الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها، ورتَّب لها ثوابًا جزيلًا وثناءً حميدًا.
وأوصى لقمان الرجل الصالح الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
عبد الله.
لا تيأسنَّ وإن طالت مُطالبةً
إذا استعنت بصبرٍ أن ترى الفرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصبر ضياء، كما جاء في حديث مسلم فقال: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تُصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها»، فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسوله.
وإذا صبر العبد على فقد الولد، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي، فيقولون: حمدك واسترجع، فقال: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد»؛ [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
كذلك فالناس يُبتلون على حسب دينهم وعلى حسب صبرهم، قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبًا وعنده صبر قوي زيد له في البلاء ليزداد أجرًا ويوم القيامة يود أهل العافية عندما يعطى أهل البلاء الثواب ويقسم عليهم، الذين صبروا في الدنيا، يتمنون لو أن جلودهم كانت قُرّضت في الدنيا بمقاريض. .! »؛ [الحديث في الترمذي وحسنه الألباني].
عباد الله، إن الصبر ثلاثة أنواع أولها صبرٌ على البلاء، وهو بضاعة الصديقين، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «وأسألك من اليقين ما تهون عليّ به مصائب الدنيا».
ولهذا وصف الله بالصبر أولياءه وأحبابه، فقال عن أيوب عليه السلام وأثنى عليه بأحسن الثناء لأنه صبر؛ فقال: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]، فمدحه بقوله: نعم العبد؛ لأنه صبر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يُبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء»؛ [صحيح الجامع].
وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصبر على فقد عينيه بالجنة، فقال: «إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر، عوَّضته منهما الجنة»؛ [رواه البخاري].
وتلك الأمَة السوداء التي جاءت تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إني أُصرع وإني أتكشف، فادعُ الله لي، قال: «إن شئتِ صبرتي ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيكِ» فقالت: أصبر ولكن ادعُ الله لي ألا أتكشف، فدعا لها فكانت تصرع ولا تتكشف؛ [متفق عليه].
عباد الله، إذا أردنا أن نصبر على البلاء فعلينا:
أولًا: أن نلاحظ حُسْن الجزاء ونلمح الغايات ونطالع العواقب، فإنه على قدر التعب تكون الراحة.
ثانيًا: انتظار الفرج مهما ضاقت الأمور، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا.
ثالثًا: ليعلم كل مبتلى أن غيره من الناس من ابتُلي بأكثر مما هو عليه.
أسال الله أن يجعلني وإياكم من الصابرين الشاكرين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أ ما بعد:
فالنوع الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن المعصية، فهو من أعظم أنواع الصبر، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يوم صبروا، فالإمام صبر عن الظلم والشاب صبر عن الفاحشة، والغني عن تناول اللذات والشهوات، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة من بعضه، وصبر المتحابين في الله على ذلك الحال في حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس.
ولهذا كان الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام، كان شابًّا عزبًا غريبًا عن أهله ومملوكًا ليس كالحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك، ومع كل هذه الدواعي فقد صبر اختيارًا وإيثارًا لما عند الله وما هم بالمعصية نهائيًّا، فلله ما أعلى هِمته!
والصبر عن المعصية يحتاج إلى الحياء من الله وتذكُّر الوقوف بين يديه.
أما النوع الثالث من أنواع الصبر، فهو الصبر على طاعة الله فهو الصبر الأعلى، فهذا نوحٌ عليه السلام صبر في دعوته لقومه صبرًا عظيمًا دام ألف سنة إلا خمسين عامًا، جاهد ودعا وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر، حتى قالوا: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ﴾ [الشعراء: 116].
وإبراهيم عليه السلام تعرَّض لمحنة عظيمة ويصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، حتى لما أُمِر بذبح ولده صبر وهمَّ بذبح الولد، وأخذ السكين وأضطجع الولد استسلامًا لأمر الله، والله ابتلاه بهذا الأمر فصبر.
وموسى عليه السلام واجه التهديد والإيذاء من قومه وقوم فرعون قبلهم، فصبر على دعوة قومين! والنبي صلى الله عليه وسلم قال لما تذكر أخيه موسى عليه السلام: «يرحم الله موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر»؛ [رواه البخاري].
إبراهيم عليه السلام لما أُمِر بترك ولده وهو حديث عهد ولادة، وقد كان عقيمًا، جاءه إسماعيل بعد سنوات طويلة جدًّا وهو شيخ كبير، وجاءه الأمر من الله ليتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع! ما نال الخليل هذه المرتبة من شيء قليل، فمضى ولم يلتفت ولم يتحسر ولم يتردد، حتى قالت هاجر: لمن تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فرجع للشام ورزقه الله بإسحاق ومن ورائه يعقوب.
وعيسى عليه السلام عانى من بني إسرائيل من التُهَم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه، وصبر حتى رفعه الله إليه.
وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كم تعرَّض للأذى وقالوا عنه مجنون وساحر وكذاب، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب، أشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يُتهم بالخيانة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم، ووضعوا الشوك وأخرجوه من بلده، وذهب للطائف يعرض نفسه على القبائل، وأحسَّ بالاضطهاد وخرج من مكة لا يدري من الهم لم يستفق إلا في قرن الثعالب، حتى تآمروا على قتله: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وقتلوا بعض أصحابه وعذبوا بعضهم، وأشد شيء على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى أتباعه يضطهدون ويقتلون أمامه، يمر عليهم فيقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، وهكذا صبر صلى الله عليه وسلم حتى أتاه اليقين من ربِّه، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، حتى لما ذهب المدينة لا يُظَنُّ أن مجالات الصبر قد خفَّت فلقد عانى من المنافقين معاناة عظيمة، عانى من حادثة الإفك، وصبر على كيد اليهود، ووضعوا له السم، وهكذا الصحابة، بلال، سمية، صهيب، عمار، أبو بكر، صهروهم في الشمس وعذَّبوهم، وهذا الصحابي خبيب بن عدي، يُسجن ويُصلب ويقول:
ولستُ أُبالي حين أُقتل مسلمًا *** على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وتلك المرأة التي قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في يوم أُحد، فصبرت على ما حصل لها من هذه الأقدار، فماتوا في رفعة الدين ونصرة الدين وجهاد الكفار، وهكذا سار على هذا المنوال التابعون وتابعو التابعين.
فيا ضعيف العزم الطريق طويل، تعب فيه آدم، وجاهد فيه نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وقاسى الضُّر أيوب، واُتهم بالسِّحر والجنون نبي الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وكُسرت رباعيته، وشُجَّ رأسه ووجهه، وقُتِل عمر مطعونًا، وذو النورين وعلي وسعيد بن جبير، فالشاهد أنه في النهاية لا سبيل إلا الصبر.
عباد الله، إن الكريم من يصبر على طاعة الله واللئيم من يصبر على طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وهم أقل الناس صبرًا في طاعة الله، فيصبرون على البذل في طاعة الشيطان، ولا يصبرون على البذل في طاعة الله.
ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله وأن يسلك سبيل الصابرين، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا هذا الخلق الكريم، إنه جواد كريم.
هذا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|