أهمية التقوى وفوائدها (1)
قال الفيروزآبادي في "بصائر ذوي التمييز" (5 /116- a117): قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء: 131]، يفهم أنه لو كانت في العالم خصلة هي أصلح للعبد، وأجمع للخير، وأعظم للأجر، وأجل في العبودية، وأعظم في القدر، وأولى في الحال، وأنجح في المآل من هذه الخصلة؛ لكان الله سبحانه أمر بها عباده، وأوصى خواصه بذلك؛ لكمال حكمته ورحمته، فلمَّا أوصى بهذه الخصلة الواحدة جميع الأولين والآخرين من عباده، واقتصر عليها، علمنا أنها الغاية التي لا متجاوز عنها، ولا مقتصر دونها، وأنه قد جمع كل محضِ نصحٍ ودلالة، وإشارة وسنة، وتأديب، وتعليم، وتهذيب في هذه الوصية الوحدة، والله ولي الهداية؛ اهـ.
قلت: والكلام شامل لكل من له لب في إصلاح حياته وآخرته، ولبيان أهميتها فقد قرنها الله مع أمورٍ، ومنع اقترانها مع أمور، وختم بها أمورًا، وابتدأ بها أمورًا، وذلك لأمر يجده من تتبع تلك الفوائد وفهمها، ومنها:
أنه يُكتب للعبد بها حسن العمل وإتقانه، مما يكون سببًا لقبوله، وبها تمتاز على غيرك، وتسكن وتحظى، وتفوز فيما أعده الله من القصور والدور، والحور العين، فتصلح حياتك ومماتك، مع مغفرةٍ للذنوب وسترٍ للعيوب، وقد بسطت في هذه الرسالة بعض ما تضمنته هذه الكلمات، وإليك بعض ما عنونت له في هذا الباب:
1 - 4 - في فهم العلم والاستفادة منه وتحصيله والاتعاظ به:
قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282].
قال ابن كثير في "تفسيره" (1 /467): هذه الآية؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28]؛ اهـ.
وقال الألوسي في "تفسيره" (2 /340) - عند آية البقرة -: ومن الناس من جوَّز كون الجملة الوسطى حالًا من فاعل اتقوا؛ أي: اتقوا الله مضمونًا لكم التعلم؛ اهـ.
وقال السعدي في "تفسيره" (ص93) عند هذه الآية أيضًا: فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله، فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
وقال تعالى: ﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
وقال الله تعالى: ﴿ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
وقال العلامة ابن القيم في "الفوائد" (ص237): ومن الفرقان ما يعطيهم الله من النور، الذي يفرِّقون به بين الحق والباطل، والنصر والعز، الذي يتمكنون به من إقامة الحق، وكسر الباطل إلى نهاية كلامه.
وقال الله تعالى: ﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم:97].
وقال تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46]، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الحاقة: 48].
5 - في الإعانة على قبول ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام:
قال الله تعالى: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 63]، وقال تعالى: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴾ [نوح: 3].
وقال تعالى عن جماعة من الرسل في سورة الشعراء: ﴿ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ﴾؛ [الشعراء: في خمسة مواضع].
6 - في إصلاح الحياة وما يتعلق بها من مطعم ومشرب وغير ذلك:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3 /451): ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾؛ أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدَّقت به واتَّبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾؛ أي: قطر السماء ونبات الأرض؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾؛ أي: ولكن كذبوا رسلَهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم؛ اهـ.
وقال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2].
وقال العلامة ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص60): مفتاح الرزق التقوى والاستغفار؛ ا هـ.
7- في معاشرة الناس لبقاء المودة والخير في الدارين:
قال الله تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
وتقدم ذِكرُ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: «وكونوا عباد الله إخوانًا، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات».
8- في إعطاء الحقوق لأهلها من عدلٍ وصلحٍ وحسن معاملة مع البر والفاجر:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [الممتحنة: 11].
وعن شابٍّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عُمَّالها في النار، إلَّا من اتقى الله، وأدى الأمانة)؛ رواه أحمد برقم (23109)، وفي إسناده شقيق بن حيان، ومسعود بن قبيصة مجهولان، إلا أن العمل عليه، والله أعلم؛ راجع: "تحقيق المسند" الرقم السابق.
وتقدم بسط الأدلة في (باب الصفات)، واكتفينا هنا بما يدل على المقصود، والله أعلم.
9- 11- في إصلاح العمل وقبوله ومغفرة الذنوب:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [المائدة: 65].
وقال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ... ﴾ [نوح: 3، 4].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71].
وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة؛ ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1 /19).
وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وقال فضالة بن عبيد رضي الله عنه: لأن أكون أعلم أن الله تقبَّل مني مثقال حبةٍ من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]. وبنحوه هذا عن مالك بن دينار، وعطاء السلمي، وعبدالعزيز بن أبي رواد، وعمر بن عبدالعزيز، وجماعة؛ اهـ.
وقال الفيروزآبادي في "بصائر ذوي التمييز" (2 /116) في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]: يُشعِر بأن الأمر كله راجع إلى التقوى؛ اهـ.
قلت: وهو كما قال، لما تقدم في الفائدة المذكورة، أول هذا الباب، والله أعلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|