بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
لآية 1، والآية 2: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي جَحَدوا أن الله هو الإله الحق ﴿ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي مَنَعوا الناس عن الدخول في دين الله تعالى، أولئك ﴿ أَضَلَّ ﴾ اللهُ ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني أبطل أعمالهم الخيرية (كإطعام الطعام وصلة الأرحام)، فلم يجدوا ثوابها في الآخرة، بل ضَلَّت عنهم (لأنها لم تكن عن إيمان ولم تكن خالصةً لله تعالى)، ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ باللهِ ورُسُله ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﴾ يعني آمَنوا بالقرآن ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ أولئك ﴿ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾:أي مَحا الله عنهم خطيئاتهم، فلم يعاقبهم عليها بسبب توبتهم ﴿ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ أي أصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة (واعلم أن البال يُطلَق أيضاً على القلب والعقل وعلى ما يَخطر للمرء من تفكير).
الآية 3: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك الإضلال والهدى ﴿ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ﴾:أي بسبب أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه فأضلهم الله، ﴿ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾:أي اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءَ به من الهدى، فزادهم الله هدىً، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾يعني: وكما بيَّن الله حال الفريقين وما يَستحقانه، فكذلك يُبَيِّن الله للناس أمثالهم، بأنْ يُظهر لهم حال الناجينَ الفائزين من الناس، وحال الهالكينَ الخاسرين منهم ليعتبروا.
الآية 4، والآية 5، والآية 6: ﴿ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾- أيها المؤمنون - ﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾:يعني فأحكِموا قيد الأسرَى: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا ﴾:يعني فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسْرهم "مجاناً"، وذلك ﴿ بَعْدُ ﴾ أي بعد انتهاء المعركة، ﴿ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ يعني: وإما أن يُفادوا أنفسهم بالمال، أو مُقابل إطلاق سَراح أسير مسلم عند المُشرِكين أو غير ذلك.
♦ واستمِرُّوا ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾:أي حتى تضع الحرب أثقالها، وهي معداتها، (وهذه الجملة كناية عن انتهاء الحرب بنصر الإسلام والمسلمين)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ابتلاء المؤمنين بقتال الكافرين ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾ أي لاَنتصر من الكافرين بغير قتال (كأنْ يَخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوَباءٍ قاتل أو غير ذلك) ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ يعني: ولكنه جعل عقوبتهم على أيديكم، فشَرَعَ الجهاد؛ ليختبر صِدْق المؤمنين بالقتال، وليَنصر بكم دينه، ويُوصلكمبالجهاد إلى أعلى الدرجات، ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ من المؤمنين المخلصين - الذين يُقبِلونَ على عدوهم غير هاربين - ﴿ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني لن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم، ﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾ إلى إجابة سؤال المَلَكَين في القبر، وسيَهديهم إلى سلوك طريق الجنة بعد موتهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، وقال عن الضالين يوم القيامة: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾، ﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ يعني: وسيُصلِح أمورهم التي تركوها في الدنيا بعد موتهم، وسيُصلِح بالهم في الجنة، فلا تصيبهم الهموم والأحزان،﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ﴾﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ أي عَرَّفهم بها وَوَصَفها لهم، ثم عرَّفهم بمنازلهم فيها إذا دخلوها.
الآية 7: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ ﴾ يعني إن تنصروا دينَ الله تعالى (بالجهاد في سبيله والحُكم بكتابه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه): ﴿ يَنْصُرْكُمْ ﴾ على أعدائكم، ﴿ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ عند القتال.
الآية 8، والآية 9: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ﴾ أي هلاكًا لهم وشقاءً ﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني: وأذهب الله ثواب أعمالهم الحسنة (كصلة الرحم وإكرام الضيف وفك الأسرى)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي شقاؤهم وإبطال أعمالهم ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ (وهو القرآن المشتمل على أنواع الهدايات و الإصلاحات) ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾:يعني فلذلك أبطل الله أعمالهم.
الآية 10، والآية 11: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا ﴾- أي هؤلاء المُكَذّبون - ألم يَمشوا ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ متأملينَمُعتبِرين، ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: يعني كيف كانَ مصير المُكَذِّبين قبلهم (كعادٍ وثمود وقوم لوط)؟ وما نزل بهم من الهلاك؟، فقد ﴿ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ ديارهم، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ يعني: وللكافرين أمثال تلك العقوبة التي نزلت بتلك الأمم، (وفي هذا تهديدٌ لكفار مكة)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك الذي فعلناه (مِن نجاة فريق الإيمان وإهلاك فريق الكفر) ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾:أي بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم ﴿ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ يعني لا أحد يتولى أمورهم وينفعهم، ولا نصيرٌ لهم ينقذهم من عذاب ربهم.
الآية 12: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق وبساتين عجيبة المَنظر تَسُرّ أنظارهم ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار من تحت أشجارها المُتدلّية، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ﴾ يعني: ومَثَلُ الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا، كمثل البهائم التي لا هَمَّ لها إلا الأكل، ﴿ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ يعني: ونارُ جهنم هي مَسكن الكافرين ومأواهم يوم القيامة.
الآية 13: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ ﴾ يعني: وكثير مِن أهل القرى الذين كانوا أشد قوة من أهل قريتك أيها الرسول - وهي مكة - ﴿ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ﴾ أي التي أخرجك أهلها، (ولَعَلّ المقصود هنا أنهم كانوا سبب إخراجه - بإيذائهم له ولأصحابه ومحاربة دعوته - لأنه صلى الله عليه وسلم خرج باختياره ولم يُكرِهه المُشرِكون على الخروج، بل كانوا يحاولون مَنْعه من الخروج لكي يقتلوه، واللهُ أعلم)، ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي دمَّرنا هذه القرى المُكَذّبة بأنواع العذاب ﴿ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾:يعني فلم يكن لهم نصيرٌ ينقذهم من عذاب ربهم، ولم تنفعهم قوتهم (وفي هذا تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم بسبب خروجه من بلده التي يحبها، وفيه أيضاً تهديدٌ لمُشرِكي مكة أن يصيبهم ما أصاب المُكَذِّبين قبلهم إن لم يتوبوا، وقد تاب الكثير منهم والحمد لله).
الآية 14: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾:يعني أفمَن كان على حُجَّة واضحة من ربه (والمقصود بهذه الحُجَّة: القرآن الكريم، الذي أنزلاللهُ فيه البراهين، وتَحَدَّى به المُشرِكين)، فهل هذا الذي على بصيرةٍ مِن أمْر دينه ﴿ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾:أي كمَن حسَّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم﴿ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ في فِعل المعاصي وعبادة غير الله تعالى، مِن غير حُجَّة ولا برهان إلا التقليد الأعمى؟! لا يستويان أبداً.
الآية 15: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ يعني: وَصْف الجنة - التي وَعَدَ اللهُ بها عباده المتقين - أنها ﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ ﴾ أي غير متغيِّر في ريحه أو طعمه بسبب طول مُكثه ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾ أي لم تُصِبه "حُموضة" أو غيرها كما يحدث في ألبان الدنيا ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾أي يَتلذذ بها الشاربون﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ (من الشمع والشوائب)، ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ أي من مختلف الفواكه وغيرها (مِمّا لم يذوقوا طعمه في الدنيا، ولم يتخيلوا لذَّته) ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ يعني: وأعظم من ذلك النعيم: (سِتر ربهم وتجاوزُه عن ذنوبهم)، فلذلك عاشوا في الجنة سعداء بمغفرة ربهم لهم ورضاه عنهم.
♦ فهل هذا المتقي - الخائف من عذاب ربه، الذي يفعل ما يُرضيه ويَجتنب ما يُغضبه - فلذلك نَعَّمه الله في هذه الجنة ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ﴾ ﴿ وَسُقُوا ﴾ أي تَسقيهم ملائكة العذاب ﴿ مَاءً حَمِيمًا ﴾ أي شديد السخونة ﴿ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾؟! لا يستويان أبداً.
الآية 16، والآية 17: ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ يعني: ومِن المنافقين الكفار ﴿ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ أي يستمع إلى حديثك - أيها النبي - ﴿ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ﴾ أي انصرفوا من مجلسك: ﴿ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾:أي قال هؤلاء المنافقون لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله - على سبيل الاستهزاء -: ﴿ مَاذَا قَالَ آَنِفًا ﴾؟ يعني ماذا قال محمد قبل قليل؟ (يشيرون بذلك إلى أنهم لم يكونوا مهتمين بحديثه صلى الله عليه وسلم) ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ أي ختم على قلوبهم، فلا تفهم الحق ولا تهتدي إليه، ﴿ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ في الكفر والضلال،﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ﴾ يعني: وأما الذين اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من الحق، ولم يتَّبعوا أهوائهم: ﴿ زَادَهُمْ ﴾ الله ﴿ هُدًى ﴾ ليَثبتوا على الحق ﴿ وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾:أي وفقهم للتقوى، ويَسَّرها لهم، فحَبَّبَ إليهم الطاعات، وكَرَّهَ إليهم المعاصي.
الآية 18: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ﴾ يعني فهل ينتظر هؤلاء المكذبون إلا القيامة التي وُعدوا بها ﴿ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي فجأةً﴿ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ أي حين تأتي شروط الساعة وعلاماتها الكبرى، وساعتها سيؤمنون؟!، (ولَعَلّ الله تعالى عَبَّرَ عن مَجيئ علامات الساعة الكُبرَى بصيغة الماضي - مع أنها لم تأتِ بعد - لتأكيد وقوعها في عِلمه سبحانه)، ﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا