وسائل قريش في محاربة الدعوة الإسلامية (1)
مرت الدعوة الإسلامية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراحل مختلفة تنوعت معها عداوة قريش ونكايتها وكيدها للمسلمين، وكان لمشركي مكَّة فيها النصيب الأوفى، حيث كانت مركزا للدعوة في أول أمرها، وكانت الجهود مركَّزة لوأدها قبل استفحال أمرها، وبذلت لذلك المحاولات العديدة للتأثير على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكُّف عن دعوته ترغيبًا وترهيبًا، لكنه تمسَّك بأمانة التبليغ وتَبِعَته ومضى في أمر الدعوة، لا يولي على شيء، فتسلَّط المشركون على أتباعه يفتنونهم عن دينهم بالبطش تارةً وبالإرهاب تارةً أخرى.
وزاد عداء قريش على الدعوة وصاحبها، ولجأت إلى الصدام المسلح، لما ظفر المسلمون بحريتهم، حيث هاجروا إلى الحبشة أولًا ثم إلى المدينة، ونجوا من الاضطهاد والفتنة، وكوَّنوا مع الأنصار جماعةً قويةً متماسكةً، تهدِّد وجود قريش وسلطتها، خاصَّة بعد أن شُرع الجهاد في سبيل الله، لرفع الظلم والاضطِّهاد عن المسلمين أولًا، وليكون وسيلةً مهمة لنشر الدعوة ثانيًا.
وقد اتَّخذ مشركو قريش في محاربتها للدعوة الإسلامية وللمسلمين وسائلَ متنوعة منها:
إنكار نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثَمَّ إنكار دعوة الإسلام:
عندما جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، امتثالًا لأمر ربه لإقامة الحجَّة على الناس، في قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [1] وقوله: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [2]، لم تتأثر العلاقات الاجتماعية بينه وبين القرشيين، ما دام لم يذكر آلهتهم بسوء، أو يخدش كبرياءهم المزعوم، وكان من الطبيعي - وقد فشَت الوثنية بمكة- أن يعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآلهة التي يخرون للأذقان سجّدًا لها، وهي لا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا تملك لهم حياةً ولا نشورًا، فلمَّا فعل ذلك وعابهم وسفَّه عقولهم، انقلب حالهم، وبدا ما كان مستترًا في قلوبهم، شديد الوضوح على أقوالهم، وما تبع ذلك من أفعالهم، قال ابن إسحاق[3] رحمه الله: فلمَّا( بادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، فلم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته)[4] وأعلنوا إنكارهم لدعوته وتكذيبهم لنبوته: ﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [5].
وألصقوا به - صلى الله عليه وسلم - تهمًا باطلة لصدِّ الناس عنه، فاتَّهموه بالسحر والكذب: ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [6] وقابلوا دعوته بالاستهزاء ورمَوه بالجنون: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [7].
وقد بين القرآن الكريم كثيرًا من لجاجتهم وعنادهم، وطلبهم المعجزات والخوارق التي تفوق طاقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾[8]، وافترائهم على القرآن بأنَّه قصص الأولين، وأنَّ بمقدورهم تأليف مثله، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [9]، وهذا الافتراء والجدال يحاولون به ردَّ الحق بالباطل وصدَّ الناس عن الحق، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [10].
إثارة الشبهات حول الدعوة الإسلامية:
ظلَّ تنفير الناس من الدخول في دين الحق، هو دأب قريش ومن شايعها، وقد كان لزعامة قريش ومكانتها الدينية في الجزيرة العربية، وسدانتها للبيت الحرام، أثرٌ كبيٌر في صدِّ الناس عن الاستجابة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما كانوا يثيرونه ضده - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرض الإسلام على القبائل، ويبلغهم رسالة ربه، فقد رُوي أن أبا لهب[11] كان يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو الناس بعكاظ[12]، وهو يقول: يا أيها الناس إن هذا قد غوى فلا يغوينكم عن آلهة آبائكم. [13].
كما كان القرشيون يتلقَّون الناس في المواسم ويحذِّرونهم من سماع كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لينفِّروهم من الإسلام، إلا أن هذا الموقف كان سببًا في دخول بعضهم فيه، كما في قصة إسلام الطُفَيْل بن عَمْرو الدَّوْسِي رضي الله عنه[14]، وكذلك ما روي أيضا في إسلام ضماد رضي الله عنه.[15].
ولم تترك قريش فرصة تثير فيها شكًا أو تبعث فيها بريبةٍ إلا وانتهزتها، وذلك مثل ما حدث بشأن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد كان لله في ذلك حكم عظيمة، ومحنة امتحن الله بها عباده ليرى من يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن ينقلب على عقبيه، فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا، وهم الذين هدى الله فلم تكن كبيرة عليهم[16]، وأما المشركون فقالوا: ( تحيَّر على محمد دينه، فتوجه بقبلتكم إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلًا، ويوشك أن يدخل في دينكم) [17]، فكانوا يتحججون بهذه الحجة الداحضة، ليشككوا الناس في صدق رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى:﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [18].
وكذلك ما حدث بشأن السرية التي أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رجب[19]، بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه[20]، وقاتل فيها المسلمون المشركين في الشهر الحرام، حيث وجد المشركون فيما حدث فرصةً لاتهام المسلمين بأنهم استحلُّوا ما حرَّم الله، وذلك يتواءم مع ما في نفوسهم المريضة، ونشروا أراجيفهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فلما كثر في ذلك الكلام، نزل الوحي حاسمًا لهذه الأقاويل، ومبينا أن ما يفعله المشركون من الكفر بالله، وصدِّ الناس عن الإيمان به تعالى، بأصناف الأذى والتنكيل، وصدَّهم عن البيت الحرام، أكبرُ عند الله، وأعظم إثما من القتل في الشهر الحرام[21]، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [22].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|