وسائل قريش في محاربة الدعوة الإسلامية (3)
محاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -:
كانت هناك محاولات فردية وجماعية من المشركين لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء في العهدين المكي أو المدني.
ففي مكة اشتد موقف قريش المعاند المكابر، وبلغ حقدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلغًا جعلهم يأتمرون فيما بينهم في القضاء عليه والحيلولة بينه وبين استمراره في الدعوة، فقال أبو جهل[1]: يا معشر قريش إن محمدًا قد أبى إلا ما ترَون من عيب ديننا وشتم آبائنا وإني أعاهد الله لأجلسنَّ له غدًا بحجرٍ ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فدَخت به رأسه.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظره، وقد غدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه، رجع منهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا، قد يبست يداه على الحجر، وقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه، عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.[2]
ثم كانت هناك محاولة جماعية من قريش للمكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، رواها موسى بن عقبة[3]، عن الإمام الزهري[4] رحمهما الله، قال: (وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم، جمع بني عبدالمطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله في شِعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حميَّة ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا)[5]، وكانت النتيجة مقاطعة المؤمنين ومحاصرتهم في الشِّعب.
ثم نجَّى الله رسوله والمؤمنين، وأذن لهم بالهجرة، وقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها)). فهاجروا إلى المدينة أرسالًا[6]، وفشا الإسلام فيها.
ولما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون، ويتآمرون على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبين الله تعالى كيدهم في قوله: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾[7].
ثم اجتمعوا على رأي أبي جهل: أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدًا، ثم يُعطى سيفا صارما، فيضربون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربة رجل واحد فيقتلوه، ويتفرق دمه في القبائل، فترضى بنو عبدمناف بدفع ديته فيدفعونها لهم[8].
فأنجاه الله تعالى منهم، ونصره عليهم، وخرج هو وأبو بكر رضي الله عنه مستخفيين من مكة، وكبر على زعماء قريش إفلاته من أيديهم، وكانوا قد أدركوا الخطر العظيم الذي يحدق بهم في حالة وصوله إلى المدينة، فأرسلوا خلفه من يتعقبه ويقبض عليه[9]، ويعيده إلى مكة، فنصره الله عليهم كما سجل ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [10].
ثم كانت غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون، ومُني فيها المشركون بالهزيمة، وقُتل من أشرافهم من قُتل فيها، فبيّت بعضهم اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقدم عمير بن وهب[11] - وذلك قبل إسلامه رضي الله عنه - المدينة لذلك، وتظاهر أن قدومه لفداء ابنه من الأسر، فلما حضر بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أظهر له الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبب قدومه، فكان سببا في إسلامه وباءت المحاولة بالفشل[12].
وقد حرص المسلمون على حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحسبًا لمكائد قريش، وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة ليلة، فقال: ((ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة)). فقالت: فبينما نحن كذلك، سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص[13].فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نام)[14].
وظل المسلمون حريصين على حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - محبة له وخوفًا عليه حتى تولى الله تعالى حفظ نبيه وحمايته، وفي هذا تقول أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحُرس، حتى نزلت هذه الآية: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [15] فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة، فقال لهم: ((يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله)).[16] ومن هذا يظهر أن محاولات المشركين قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، تبرهن على مكنون حقدهم على الدعوة الإسلامية، كما تبين بجلاء حرص أعداء الدين على وأد الدعوة والقضاء على الدعاة، وبخاصة حينما تعجز عن ثنيهم عن المضي في الدعوة إلى الله، وإعادتهم إلى حظيرة الشرك.
ملاحقة المسلمين خارج مكة:
لم يقتصر أذى قريش للمسلمين على وجودهم في مكة، بل جاوزه إلى خارجها، فقد أزعج المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ولدينهم في الحبشة، عندما جاوروا النجاشي[17]، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين منهم، هما عمرو بن العاص[18] وعبد الله بن أبي ربيعة[19]، وأرسلوا معهما هدايا للنجاشي وبطارقته، فذهبا إليهم بالهدايا وطلبوا من النجاشي أن يسلم إليهما المسلمين، وقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منَّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.. فكان من تمام الخبر أن أبطل الله مسعاهم ومكث المسلمون في الحبشة آمنين، وكانوا عند النجاشي في خير منزل[20].
ولما هاجر المسلمون للمدينة واستقروا بها، حاولت قريش ردّ من تستطيع ردّه من المؤمنين إلى مكة لتفتنه عن دينه، كما حدث مع عيَّاش بن أبي ربيعة[21]، رضي الله عنه حين رده المشركون إلى مكة وفتنوه فافتتن، ثم نجاه الله منهم وهاجر مرة أخرى[22].
وما كانت قريش لتدع هذا المجتمع المسلم آمنًا في موطنه الجديد، بل كتبت إلى عبدالله بن أُبَي[23] - وذلك قبل إظهاره الإسلام، وقبل غزوة بدر -: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا لنقسم بالله لتقاتلنَّه أو لتخرجنَّه، أو لنسيرنَّ إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم. فلما بلغ ذلك عبدالله بن أبي ومن معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال: ((لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيد لكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم))، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا)[24].
أما بعد غزوة بدر فقد كتبت إلى يهود المدينة، تحثهم على قتال المسلمين وتهددهم، وتقول لهم: ( إنكم أهل الحِلق والحصون، وإنكم لتقاتلنَّ صاحبنا أو لنفعلنَّ كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء..)[25].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|