الأسرة السعيدة
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]؛ أما بعد:
فالأسرة السعيدة هي الأسرة التي يكون بين أفرادها التعاون والحب والتفاهم، وهي التي تكون كالجسد الواحد، وهي نواة المجتمع، وهي التي تقوم بغرس الأخلاق والقيم في نفوس أطفالها، والأسرة السعيدة هي اللبنة الأساسية لبناء مجتمع متماسك وسليم يخلو من العقد النفسية والجرائم.
يا عباد الله، إنَّ خير البيوت ما عُمِّر بحُسْن العشرة والمحبة والأُلْفة، وإن حسن العشرة سبب للسعادة والرحمة، وراحة البال والصحة، والهناء والفرحة، ولكي نحقق السعادة في بيوتنا علينا بالتالي:
أولًا: اختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تُنكَح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك»؛ رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم للأسرة عندما يتقدم الخاطب لابنتهم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلُقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»؛ رواه الترمذي.
ثانيًا: الدعاء الصالح، وهو سلاح المسلم، فنحن ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة بأن يحقِّقَ لنا السعادة، وأن يجلبها لنا، وأن يُعيننا على تحقيقها، وعلى إسعاد أنفسنا ومن حولنا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ»؛ رواه الترمذي.
ثالثًا: يا عباد الله، المعاشرة بالمعروف؛ بالكلمة الطيبة والصحبة الجميلة، وكف الأذى، وحسن المعاملة؛ قال تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، ويقول سبحانه: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].
رابعًا: الاحترام المتبادل بين الزوجين، فيجب على الزوجة احترام زوجها، حتى لا تهتزُّ صورته أمام أولاده، وكذلك الزوج يجب عليه احترام زوجته، ومعاملتها معاملة حسنة أمام الجميع، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، فالمودةُ والرحمةُ هما المعنى الحقيقي للاحترام المتبادل بين الزوجين.
خامسًا: الاهتمام بالعلاقة الحميمية بين الزوجين؛ لأن إهمالها يؤدي إلى الكدر والتعاسة والاضطراب النفسي، عن جابر بن عبدالله قال: «تزوَّجت امرأة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أتزوَّجت يا جابر؟ فقلت: نعم فقال: بكرًا أم ثيبًا؟ قلت: لا بل ثيبًا، فقال: هلا جارية تلاعِبُها وتلاعِبُك؟!».
سادسًا: يا عباد الله، الحرص على تعليم الأسرة حُبَّ الخير وأحكام الشرع؛ من الصلاة والصدقة وصلة الرحم والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
سابعًا: التغافل عن الأخطاء، والمقابلة بالحلم والتسامح والعفو، يقول الحسن البصري رحمه الله: (ما زال التغافل من فعل الكِرام)، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل).
نفعني الله وإيَّاكم بهدي نبيِّه وبسنة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- أقول قولِي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، وَصَلَّى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يَجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقتُ بينَه وبين أهله، قال: فيقربه ويُدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم أنت»؛ رواه مسلم.
أما بعدُ:
إن السعادة الأسرية أن يكون الإنسان سعيدًا في مسكنه ومع زوجته وأولاده وجيرانه؛ فعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء»؛ رواه ابن حبان في صحيحه.
وَلَسْت أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ
وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيد
يا عباد الله، ومن الأمور التي تحقق السعادة الأسرية:
• مساعدة الزوج زوجتَه، ومساعدة الزوجة زوجَها في الواجبات المنزلية والعملية، وفي تربية الأولاد، سُئلت عَائِشَة رضي الله عنها: (ما كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يَعمَلُ في بيتِه؟ قالت: كان يَخيطُ ثوبَه، ويَخصِفُ نَعْلَه، ويَعمَلُ ما يَعمَلُ الرجالُ في بُيوتِهم).
وكذلك: عدم نقل المشكلات الأسرية إلى الخارج، والحفاظ على أسرار الحياة الزوجية، وخاصة العلاقة الحميمية؛ قال تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتُفضي إليه، ثم ينشر سِرَّها»؛ رواه مسلم.
ومنها يا عباد الله: اللعب والترفيه والخروج إلى المتنزَّهات والسفر في أوقات اليوم، أو كل أسبوع أو كل شهر، فإنها تجعل للحياة الزوجية نكهةً قويةً وسعادةً قلبيةً، تبقى محفورةً في ذاكرة الزوجين والأولاد.
ومنها: تبادل المشاعر العاطفية والتصريح بها؛ كمدح الشكل والفعل والكلام والتعبير عن الشوق والمحبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني قدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا)، وقَصَد في هذا الحديث أمَّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وتروي عائشة -رضي الله عنها- فتقول: (ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النبي صَلى اللهُ عليه وسلمَ، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النبي صَلى اللهُ عليه وسلمَ يُكْثِرُ ذِكْرَها)؛ رواه البخاري.
وأخيرًا: ولا تنسوا الفضل بينكم، فعلى الزوج والزوجة الاعتراف بالفضل والجميل لكل منهما، فقد كانا شريكين في تربية الأولاد والخدمة والتضحية، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخر»؛ رواه مسلم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على نبيِّكم؛ استجابة لأمر ربكم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ وسلِّم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأعْلِ بفضلكَ كلمةَ الحق والدين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهم وَفِّقْه لِمَا تحب وترضى، وخذ بناصيته للبِرِّ والتقوى، اللهم وفِّقْه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، ولما فيه الخير للإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهما البطانة الصالحة، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها، وقيادتها، وأمنها، ورخاءها واستقرارها، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم اجعلها دائمًا حائزة على الخيرات والبركات، سالمة من الشرور والآفات، اللهم اصرف عَنَّا شَرَّ الأشرار وكيد الفُجَّار، وشرَّ طوارق الليل والنهار، رُدَّ عَنَّا كيدَ الكائدين، وعدوانَ المعتدين، ومكرَ الماكرين، وحقدَ الحاقدينَ، وحسدَ الحاسدينَ، حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف ذاتَ بينِهم، وأصلح قلوبهم وأعمالهم، واجمعهم يا حي يا قيوم على العطاء والسنة، يا ذا العطاء والفضل والمِنَّة.
اللهم انصر جنودنا، ورجال أمننا، المرابطين على ثغورنا وحدودنا، اللهم تقبَّل شهداءهم، اللهم اشْفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وردَّهم سالمين غانمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127] ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، والمسلمين والمسلمات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|