النصيحة من الغيبة والنميمة
الحمد لله الرحمن، خلق الإنسان علمه البيان، أحمده سبحانه وأشكره، جعل له لسانًا وشفتين، وهداه النجدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله، لقد هدى الإسلام إلى أحسن الأخلاق، وأكمل الفضائل والآداب، ومن ذلك العناية بأدب الحديث، وحسن المنطق، وحفظ اللسان عن اللغو، ومستقبح الأقوال؛ ذلك أن الله تعالى أكرم الله بني آدم، وميزهم بنعمة العقل والبيان؛ فقال سبحانه في معرض الامتنان بهذه النعمة على خلقه: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77].
فحقُّ هذه النعمة العظيمة أن تُشكَر ولا تُكفَر، وأن تُحفظ عن الحرام، وتُصان عن الآثام؛ استشعارًا لقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وبحفظ اللسان يكمل الإيمان، ويترقى في درجات التعبد والكمال؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت)).
واللسان - عباد الله - له آفات وحصائد، ينبغي التحفظ والتحوط منها، أعظمها وأخطرها الغِيبة، وهي مِعْولٌ من معاول الهدم في بناء الأسرة والمجتمع، وعامل فعَّال في تفريق المسلمين، وقد جاء النهي عنها في القرآن الكريم في أقبح صورة: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12]، وقد عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة تعريفًا جامعًا؛ فقال للصحابة رضي الله عنهم: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه))؛ [رواه مسلم].
قال النووي: "سواء ذكرته بلفظك، أو في كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، وضابطه: كل ما أفهمت به غيرك نقصانَ مسلمٍ، فهو غيبة محرمة"؛ [الأذكار، ٣٣٨].
الغيبة ذنب خطير، وجزاؤه وبيل؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لما عُرِج بي مررت بقوم، لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم))؛ [رواه مسلم].
وقد زجر القرآن عن هذه الآفة؛ فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]، المغتاب العيَّاب بلسانه أو إشاراته، في وجوه الآخرين أو ظهورهم إذا أدبروا أو غابوا.
ومن آفات اللسان النميمة؛ وهي نقل الكلام على وجه الإفساد، وهي أخت الغيبة، بل هي أعظم إثمًا، فالنمَّام رجل يتحرك بالشر، ويسعى من أجله، والنمام يُفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، وقد جاء ذمه في القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾ [القلم: 10 - 12]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة نمَّام))؛ [متفق عليه].
وعن ابن عباس، قال: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما لَيُعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة))؛ [متفق عليه].
وذو الوجهين، هو ذو اللسانين، الذي يتردد بين متعاديين، فيكلم كلًّا منهما بما يوافقه، وقد عدَّ صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك شر الناس؛ فقال: ((تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه))؛ [متفق عليه].
قال يحيى بن كثير: "يُفسد النمام في ساعة ما لا يُفسد الساحر في شهر".
الغيبة والنميمة كبيرتان من الكبائر، وآفتان من أقبح القبائح، وأكثرها انتشارًا في الناس حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس، إلا من رحم الله عز وجل.
الغيبة والنميمة فيهما هتك الأستار، وتفشِّي الأسرار، وتُورث الضغائن، وترفع المودة، وتجدد العداوة، وتبدد الجماعة، وتهيج الحقد، وتزيد الصدَّ، وهي عادة اللئام، وضيافة الفساق، سمع عليُّ بن الحسين رجلًا يغتاب، فقال: "إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس".
والشيطان يسوِّل للنفوس الوقوع في هذه الكبائر؛ قال ابن تيمية: "ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان"؛ [الفتاوى 28 /238].
وكان العلماء والعقلاء يقطعون الطريق على المغتابين والنمامين؛ فكان ابن أبي زكريا لا يذكر في مجلسه أحدًا، ويقول: "إن ذكرتم الله أعنَّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم"، وقال ابن المبارك لسفيان: "ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة؛ ما سمعته يغتاب عدوًّا له قط، فقال سفيان: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته من يذهب بها".
وللسلامة من هاتين الآفتين ينبغي للمسلم المريد نجاته أن يعمل بآداب القرآن التي وردت في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
قال سهل بن عبدالله: "من أراد أن يسلم من الغيبة، فليسدَّ على نفسه باب الظنون، فمن سلِم من الظن، سلِم من التجسس، ومن سلِم من التجسس، سلِم من الغيبة، ومن سلِم من الغيبة، سلِم من الزور، ومن سلِم من الزور، سلِم من البهتان".
إحسان الظن والتماس المعاذير يقطع الطريق على رسل الشيطان، وسُعاة النميمة.
اللسان حبل مرخيٌّ في يد الشيطان، إن لم يلجمه العبد بلجام التقوى، فإنه يورد صاحبه موارد العطب، ويوقعه في كبائر الإثم، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وتطاول على عباد الله، فيصبح اللسان مقراضًا للأعراض بكلمات السوء والفحشاء، والسخرية والاستهزاء، ونشر المعايب والمثالب، لا يحجزه عن ذلك دين ولا مروءة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد لَيتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم))؛ [رواه البخاري].
إن المتأمل في واقع اليوم لَيروعه ما تنشغل به بعض المجالس، وما يُبَث عبر وسائل التواصل المختلفة، من لغو الكلام، بما لا طائل منه ولا فائدة من طرحه، من نقد غير بنَّاء، واتهام وبهتان للأبرياء، وإظهار للمعايب، ونشر للمثالب.
ويعظُم الضرر ويشتد الخطر إذا كان الغيبة والنميمة لمن لهم فضل علمٍ، وعظيم حقٍّ من الولاة والعلماء؛ قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا؛ أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، وتمسكوا بلا إله إلا الله؛ فإنها العروة الوثقى، وتأسُّوا بخُلُق نبيكم؛ فإنه كما قالت عائشة رضي الله عنها: ((لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح))؛ [رواه الترمذي]، فاتخذوا من هديه صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة، وصونوا ألسنتكم من حصائد الألسن، فيا لخيبة من سلك طريق الشر، وكذب وافترى، وهتك الأعراض، وقذف المحصنات الغافلات، وآذى المسلمين بلسانه ويده! وطوبى لعبد قال خيرًا فغنم، أو سكت عن الشر فسلِمَ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا ونائبه لكل خير، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا وموتى المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|