حاجتنا إلى دعوة الأقارب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد رأينا في الخطبة السابقة مراحل تنزُّل القرآن الكريم، وأنواع الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وطرقه، وأهمية هذا الوحي في حياة القلب والروح، فلما نزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1]، كان إيذانًا له صلى الله عليه وسلم ببدء الدعوة إلى الله، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله سرًّا، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
عباد الله: استمرت الدعوة السرية مدة ثلاث سنوات، والحكمة من سريتها تتجلى فيما يلي:
• التريث ريثما تتكوَّن اللبنات الأولى التي تقوم عليها الدعوة.
• نهج المسالمة المؤقتة؛ لأن مهاجمة المجتمع الغارق في ضلاله يؤذِن بتحريك دوافع المقاومة.
• إتاحة الفرصة للدعوة لتصل إلى مسامع العرب في محافلهم ومواسمهم.
فيعتبر هذا – إذًا - من باب السياسة الشرعية، والنظر المصلحي للدعوة إذا كان الجهر يضر بها.
وكان من الطبيعي أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم من يغلب على ظنه أنه سيدخل هذا الدين، وأنه سوف يكتم أمره، فدعا أولًا أقرب المقربين له؛ ومنهم:
أولًا: إسلام خديجة رضي الله عنها: فكانت أول من دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلمت، وقد وقفنا معها طويلًا عند الحديث عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة قبل البعثة، ونستفيد من هذا لواقعنا أن أول ما يحرص عليه الرجل بعد نفسه، هداية زوجته وأهل بيته، وأول ما تحرص عليه المرأة بعد نفسها، هداية زوجها وأهل بيتها، فيخرم القاعدة من يدعو الأباعد، وهو لم يهتم بعدُ بأقرب الناس إليه، فكيف تطيب لنفسك أن تذهب إلى المسجد للصلاة، وأنت تعلم أن زوجتك وأبناءك لا يصلون؟ ما تفعله من مداومتك على الصلاة شيء جميل، وأجمل منه أن تدعوهم إلى الصلاة وتصبر على ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، وقال عن إسماعيل عليه السلام: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 55]، وقال صلى الله عليه وسلم في شأن الدعوة المتبادلة بين الرجل وزوجته في إرادة الخير: ((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[2]، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة، فكانت أول من سمعت الوحي من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن به، وأول من تلا القرآن بعد سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من تُليَ القرآن في بيتها، وأول من تعلم الوضوء والصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن إسحاق قال: ((ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين ماء مزنٍ، فتوضأ جبريل عليه السلام، ومحمد ينظر إليه، فوضَّأ وجهه ومضمض واستنشق ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين، ونضح فرجه، ثم قام فصلى ركعتين، وسجد أربع سجدات على وجهه، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الله عينه وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سرًّا)).
فالحرصَ - إخواني وأخواتي - على أن تبدأ نصح زوجتك، أو تبدأ الزوجة نصح زوجها وأبنائهما أولًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في عرض الدعوة أولًا على خديجة رضي الله عنها.
ثانيًا: إسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعد خديجة عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على ابن عمه عليٍّ، وهو ابن عشر سنين، وقد روى ابن إسحاق القصة فقال: ((إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيومين فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده، وإلى عبادته، وكفر باللات والعزى، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرًا حتى أُحدِّث أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلمأن يفشيَ عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي، إذا لم تسلم فاكتم، فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمحتى جاءه فقال: ما عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل عليٌّ وأسلم، ومكث عليٌّ يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم عليٌّ إسلامه ولم يظهر به)).
فاستفدنا أمورًا؛ منها:
• دعوة الأقارب: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلمدعا ابن عمه بعد زوجته، والأقارب هم الأقرب إليك، فإن كانوا معك كانوا سندًا لك في الدعوة وغيرها، وإن كانوا عليك قلما تفلح في نشر الخير في غيرهم، وعليٌّ - كما سيأتي معنا - كان سندًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأمور، فنام في فراشه ليلة الهجرة، وحضر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فأبلى فيها البلاء الحسن.
• أهمية دعوة الثقة: فعليٌّ أسلم وكتم الأمر على أبيه، فكان لزامًا للدعوة في البداية أن تتركز على الأقارب من جهة، وعلى الثقة منهم؛ ولذلك كرِه النبي صلى الله عليه وسلم من علي أن يفشِيَ السر لأبي طالب رغم أنه عمه؛ فالأقارب ليسوا على درجة واحدة من الثقة.
• التركيز على دعوة التوحيد أولًا: فالنبي صلى الله عليه وسلملم يحدِّث عليًّا في البداية عن الوضوء والصلاة، وإنما قال له: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد))، فهذا هو الأساس لغيره.
فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الموحدين لك، النافعين لأهلهم وأقاربهم، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى بداية الدعوة السرية والحكمة منها، وإسلام خديجة وعلي، ونختم بالوقفة الثالثة؛ وهي:
إسلام زيد بن حارثة رضي الله عنه: بعد خديجة وعليٍّ أسلم زيد بن حارثة، وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، اشترته خديجة وأهدته للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم قبل حرمة التبني، فهو كالابن والخادم، فهو من أقرب الناس له صلى الله عليه وسلم، وهو حِبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، ولما نزل الوحي كان زيد بن حارثة يبلغ من العمر أربعة وثلاثين عامًا، أو ثلاثين عامًا، وحدثه النبي صلى الله عليه وسلمعن الإسلام، فآمن من ساعته، وهو من خبر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلمعن قرب، وحينما جاء أبوه وعمه لأخذه، وخيره النبي صلى الله عليه وسلمبين الذهاب معهم أو البقاء عنده، قال: ما أريدهما، وما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم، فكان معه ظاهرًا وباطنًا، وأبلى البلاء الحسن في خدمة الدعوة، وهو من صحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الطائف، وحضر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن استُشهد في غزوة مؤتة؛ فنستفيد أمورًا؛ منها:
• إن الأخلاق والإحسان إلى الناس يأسرهم ويجعلهم يحبونك: كما أحب زيدٌ النبيَّصلى الله عليه وسلم، بأخلاقه والإحسان إليه، فسارع إلى الإيمان به، وهذا أنس رضي الله عنه يقول: ((خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا: لم صنعت؟! ولا: ألَا صنعت؟!))[3]، فعلى الدعاة إلى الله البراعة في كسب قلوب الناس بالإحسان إليهم؛ على غرار قول القائل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
طالما استعبد الناس إحسانُ
• إن الخدم جزء من الأقارب وأهل البيت، يجب معاملتهم بالعدل والرفق بهم: قالصلى الله عليه وسلم: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِه أجره))[4]، وقال: ((إخوانكم خَوَلُكُم - أي: خدمكم أو عبيدكم الذين يتخولون الأمور؛ أي: يصلحونها - جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم))[5].
• يجب دعوة الخدم إلى الخير: مثلهم مثل أهل بيتك وأقاربك، كما دعا النبيصلى الله عليه وسلمزيد إلى الإسلام، فلو استأجرت أجيرًا في محل عملك، وتذهب أنت إلى الصلاة – مثلًا – وتتركه، فما أحسنت وما نصحت له.
فاللهم اجعلنا هداة مهتدين، أدلاء على الخير، ممن يسنون في الاسلام سنة حسنة، آمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|