الرؤيا الصادقة: طريقة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد رأينا في الخطبة السابقة أنه لما بلغ صلى الله عليه وسلم التاسعةَ والثلاثين من عمره، حُبِّبت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حِراء؛ لأجل التفكر في آيات الله والتفرغ للعبادة، ومن حِكَمِ هذه الخلوة التهيئة النفسية للنبي صلى الله عليه وسلم لاستقبال الرسالة.
عباد الله: روى البخاري في صحيحه؛ عن عائشة رضي الله عنها في حديث الرؤيا السابق معنا، قالت: ((كان أول ما بُدِئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبح))[1]، وكان هذا قبل مَبعثه صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[2]، ولنا مع هذا الحدث ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: الرؤيا الصادقة طريقة الوحي للأنبياء، ومن نماذج ذلك نموذج رؤيا إبراهيم عليه السلام، فقد رأى أنه يذبح ابنه، فقال له: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، وقام فورًا للتنفيذ، ولو لم تكن رؤيا الأنبياء وحيًا، لَما فعل ذلك، ولَمَّا هَمَّ بالذبح؛ ناداه ربه: ﴿ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 104 - 106]، ونموذج يوسف عليه السلام؛ فقد رأى رؤيا وهو صغير وقال لأبيه: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وتحققت رؤياه بعد أربعين سنةً، وقال لأبيه بعد تحقق رؤياه: ﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100].
الوقفة الثانية: الرؤيا الصادقة طريقة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها:
أولًا: قبل البعثة: مما يدل على ذلك أنها مبدأ الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يوحى إليه في المنام ستة أشهر، وكانت تأتيه كفلق الصبح؛ يعني: في الوضوح والوقوع، فكانت كالمقدمة للوحي؛ والحكمة من ذلك ألَّا يأتيه المَلَكُ فجأةً؛ لأن القوة البشرية لا تحتمله؛ فمهَّد الله له بالرؤيا الصادقة والواضحة، كما أنه أحيانًا كان يرى ضوءًا، أو نورًا، أو يسمع صوتًا؛ فمثلًا سمع حجرًا يُسلِّم عليه بمكة، وهكذا قبل أن يأتيه الملك في غار حراء فمهَّد الله له بهذه الأشياء؛ وهذا من سنن الله أن يقدِّم بين يدَيِ الأشياء العظيمة بممهدات؛ مثل قيام الساعة، فهي أمر عظيم، يسبقها علامات ممهدات صغرى وكبرى؛ قال ابن القيم رحمه الله: "هذا شأنه سبحانه أن يقدِّمَ بين يدي الأمور العظيمة مقدِّمات تكون كالمدخل إليها".
ثانيًا: بعد البعثة: لو أخذنا الرؤى النبوية لوجدنا أنها تنقسم إلى أقسام؛ منها: ما هو لتثبيته وبيان حقيقة دعوته، وما يكون بيانًا لفضائل أقوام، وما يكون بشائر لهذه الأمة، وما كان لبيان أشياء ستقع في المستقبل، أو في البرزخ، أو تقع بعد قيام الساعة؛ وأكتفي للتمثيل بنموذجين:
الأول: ما هو لتثبيته وبيان حقيقة دعوته: مثل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية: ((أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهَدْيَ بالحديبية، قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27]، قال عمر: يا رسول الله، ألم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك تأتيه وتطوف به))، فكان هذا الوعد في سنة الحديبية سنة ست، ووقع إنجازه في سنة سبع، في عام عمرة القضاء.
وعن جابر بن عبدالله، قال: ((جاءت ملائكة[3] إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لِصاحبِكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدُبةً وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجِبِ الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أوِّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بين الناس))[4]؛ هذه رؤيا رآها صلى الله عليه وسلم تبين حقيقة دعوته وحال أمته معه، وأن مَثَلَهُ كمثل داعٍ إلى دار فيها وليمة؛ مأدبة طعام، فمن أجاب الدعوة دخل وأكل، ومن لم يجب لا دخل ولا أكل، فالدار الجنة، وهو الذي يدعونا إلى الجنة.
والثاني: ما يكون بيانًا لفضائل أقوام: كفضل بلال وعمر رضي الله عنهما؛ عن بريدة قال: ((أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالًا، فقال: يا بلال، بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خَشْخَشَتَك[5] أمامي، دخلت البارحة الجنةَ، فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيتُ على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من العرب، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، فقلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال بلال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ قط إلا توضأت عندها، ورأيت أن لله عليَّ ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بهما[6]))[7].
فاللهم ارزقنا قصورًا في الجنة، والسكنى إلى جوار نبيك صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى أن الرؤيا الصادقة وحي للأنبياء، وهي كذلك وحي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، ونختم بـ:
الوقفة الثالثة: رؤيا المؤمنين بين بشارة الرحمن وتحزين الشيطان:
أولًا: المبشرات: سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 64]، فقال: ((لم يبقَ من النبوة إلا المبشرِّات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له))[8]، والتبشير هو إدخال السرور والفرح على المبشَّر، والمراد أن الوحي ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى ما يُعلَم منه ما سيكون إلا الرؤيا، والتعبير بالمبشرات خرج مخْرَج الأغلب؛ فإن من الرؤيا ما تكون منذرةً وهي صادقة يُريها الله للمؤمن؛ رفقًا به ليستعد لِما يقع قبل وقوعه؛ فقد تبشره بخير يأتيه، أو شر يُطرَح عنه.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا الصالحة من أجزاء النبوة؛ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا الحسنة، من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة))[9]؛ لأن الأنبياء يخبرون بما سيكون، والرؤيا تدل على ما يكون؛ فالقاسم المشترك بين رؤيا الأنبياء ورؤيا المؤمن الصادقة هو الإخبار بأمر سيقع في المستقبل فيقع طبق الرؤيا، ومعنى: جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، أن مدة الوحي بالرؤيا ستة أشهر؛ أي: نصف سنة، ومدة الوحي باليقظة ثلاث وعشرون سنةً؛ أي: ستة وأربعون نصف سنة، فنصف سنة جزء من ستة وأربعين؛ أي ، وهذا ناتج قسمة عددين كسريين:
كما لو أنه أخذنا ثلاث وعشرين قطعةً وقسمناها إلى أنصاص، فالحاصل: ستةً وأربعين، ونصف القطعة الواحدة هي نسبة الوحي بالمنام، ويفيد الحديث أيضًا أن النبوة خُتمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن البشارة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي))[10]، وعليه لا بد من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بأوصافه حتى إذا قدَّر الله رؤيته في المنام عَرَفْتَه، أو ادعى أحد رؤيته سألته عن أوصافه.
ثانيًا: التحزين: قد يأتيك الشيطان بأحلام مزعجة بهدف تحزين المؤمن، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي فعله، فقال: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحُلْمُ من الشيطان، فإذا حلم فليتعوذ منه، وليبْصُق عن شماله ثلاث مرات؛ فإنها لا تضره))[11] ، وفي رواية: ((وليتحول عن مكانه الذي كان عليه))[12]، وفي رواية: ((وإن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقُم يصلي))[13].
فاللهم متِّعنا برؤية حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الموت، والقرب منه في الجنة آمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|